تتكاثر الأحاديث حول الضفة الغربية ومستقبلها خاصة بعد الحملة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على مخيم جنين وبعض القرى المحيطة به، وتجنبًا لأية حسابات خاطئة، فالضروري أن ينتقل الحديث إلى ما تبقى من الضفة الغربية، وهو سياق مختلف تمامًا، لدرجة أنه يمكن وصفه بالرأس المثقل بالمشكلات المرتبطة بأطراف عاجزة عن الحركة.
قبل أشهر طلبت من أحد الصحفيين الفلسطينيين أن يعيد كلماته لأنني شعرت بوجود شيء خاطئ في طياتها، ولكنه أعادها كما هي، لقد التهمت كريات أربع مدينة الخليل، نعم المستوطنة هي التي تتغول على مدينة كبيرة وكثيفة سكانيًا مثل الخليل وليس العكس، بمعنى أن كل الأنشطة في المدينة مرتهنة لترتيبات تأمين المستوطنة، التي يناقش الكنيست ضمها إلى إسرائيل رسميًا، بما يعني أن مناطق جنوب الضفة الغربية بموقعها الاستراتيجي والذي يصلح لتمديد الاتصال العضوي مع قطاع غزة ستصبح مجموعة من المعازل السكانية، وستعاني قراها من عدم قدرة المزارعي? على الوصول إلى أراضيهم، بما سيشكل ضغطًا إضافيًا على هذه المجتمعات.
قدرة إسرائيل على عزل مناطق الخليل اقتصاديًا وتجاريًا، لم تتوافر في الشمال لقربه من المثلث العربي في مركزه بأم الفحم، وطبيعة الأنشطة المتواصلة التي تشكل فرصًا اقتصادية، وتقلل من قدرة جيش الدفاع على المناورة لكثافة حركة عرب 1948 في المنطقة، وهي المنطقة التي اقترحت صفقة القرن نقلها للسيادة الفلسطينية ضمن تبادلات الأراضي، ولكن الحديث عن السامرة يعود للتجدد في عملية ستتواصل قرية بقرية ومدينة بمدينة، مما يجعل رفع التكلفة في مخيم جنين خيارًا للمقاومة الفلسطينية، فالمدينة تشكل عقدة استراتيجية أمام الإسرائيليين، وم? يتبقى سيكون مجرد عمليات ميدانية سريعة في قرى مكشوفة تقريبًا نتيجة أنماط البناء وإمكانية رصدها جويًا، فلا شوارع أو أزقة على نمط المدن.
العد التنازلي لتجهيز صفقة القرن على الأرض بدأ فعليًا، والبوابات التي نصبت على مداخل القرى أصبحت مستعدة للعمل، فما الذي يمكن أن تفعله السلطة في رام الله في هذه الحالة سوى السيطرة على المدينة التي تعتبر عاصمة للسلطة والفضاء الموضوعي لممارسة وظائفها حيث لم تعد أي منطقة أخرى في الضفة تتصف بالاتصال الجغرافي وتوفر مكانًا للحد الأدنى من الحياة الطبيعية.
يعيش نحو 5.5 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، والأرض المتاحة لهم جميعًا لا تتجاوز ثلاثة آلاف كيلومتر، أي أن أي مستقبل زراعي لإعاشة الفلسطينيين ينعدم عمليًا، كما ولا يمكن الحديث عن أنشطة اقتصادية طبيعية في ظل واقع العزل بين المناطق الفلسطينية، وعزلها جميعًا عن العالم، بحيث لا يتبقى سوى نقطتي اتصال فعليًا، معبر رفح الذي ينفتح على سيناء قليلة الكثافة السكانية والتي تتركز أنشطتها الاقتصادية في السياحة، والأردن من خلال جسر الملك الحسين، والذي يعاني أصلًا من اكتظاظات كبيرة، ولكنه يشكل الرئة التي تزود الضفة ا?غربية باحتياجاتها وتسمح لسكانها بالتواصل مع العالم والسفر والتنقل.
بقيت الضفة الغربية أرضًا أردنيةً محتلةً حتى صيف 1988، ووقتها كان يمكن الحديث عن استعادة كاملة أو تدريجية، ولكن المقابل كان نظرية الدولتين، الأردن و(إسرائيل)، خاصة أن المصريين كانوا يرغبون في بعض المراحل في ترتيبات أخرى في قطاع غزة لا تمانع من إلحاقه بالأردن، على أساس أن العلاقة مع الأردن ستكون مريحة وطبيعية بالنسبة لهم، أكثر من (إسرائيل)، ولكن وجهة النظر الفلسطينية، وهي مفهومة أيضًا، كانت تؤشر إلى أن ذلك يعني إعدام فرص قيام الدولة الفلسطينية التي تبنتها المنظمة خيارًا منذ البرنامج المرحلي 1974، وتفهم الأرد?، على مضض، الرغبة في تأسيس الدولة الفلسطينية بوصفها أمرًا مرتبطًا بسياق القضية ومنه ملف اللاجئين، مع التحفظات على فكرة القدرة على إدارة الضفة الغربية وحياة سكانها، ويبدو أن المحصلة لم تكن ايجابية في جانب اللاجئين ولا في جانب أهل الضفة الغربية.
هل ستسمح إسرائيل بوجود مطارات وموانئ فلسطينية؟ الإجابة بالنفي واضحة، وبما يعني استمرار الدور الأردني، ولكن ليس عادلًا أو منطقيًا أن يكون دورًا مع ما تبقى من الضفة بعد أن تتحصل إسرائيل على كل ما تريده، ولذلك فالأردن يجب أن يتحدث أيضًا عن تصوراته للدولة الفلسطينية وعلاقته المستقبلية معها، وأن يؤكد أن أي حل موضوعي، إذا كان ثمة حل، يجب أن يبدأ من المحافظة على الوضع القائم ووقف تدهوره بالصورة التي يسعى لها اليمين الإسرائيلي لتكون أمرًا واقعًا مع استئناف الحديث عن التسوية في المنطقة، وهو ما يبدو أن الرئيس دونالد?ترامب يريده، ولذلك تستثمر اسرائيل في سياسة الأمر الواقع.
الخطاب الواقعي يجعل قدرة الأردن في التأثير على مجريات الأحداث محدودة، ولكن من الضروري أن يعلن بوضوح عن مصفوفة اجراءات تواجه السيناريوهات الإسرائيلية، والأهم من ذلك، أن يدرك أن أي حديث حول الدور الأردني سيكون متعلقًا بما تبقى من الضفة الغربية، وهو ما يختلف في جوهره وحساباته، عن الضفة الغربية التي كانت تتصدر الحديث من قبل.