قطاع التعليم العالي عندنا، ومنذ البداية، حقق نجاحات جمّة، كمّاً ونوعاً. وعبر السنوات بنى سمعة طيبة إقليمياً ودولياً.
ويُسجل له أنه كان أول قطاع، عربيّاً، يتبنى العديد من الممارسات العالمية الفضلى، ومنها التحول من نظام السنوات إلى نظام الساعات المعتمدة.
ويسجل له أنه من أوائل من أدخل في منظومته أبعاداً مدروسة وفاعلة من التعلم الإلكتروني والتعلم المدمج.
ومن أهم ميزاته المرونة والسرعة في التعامل مع المُستجدات.
بَيْدَ أنّ هنالك العديد من التحديات التي ما زالت تحول بينه وبين تحقيق المأمول.
والتحديات على مستويين: جُزئي وكليّ!
التحديات الجزئية كثيرة، وتتصل بكافة عناصر القطاع. أما الكليّة فهي أقل عدداً، وإن كانت أكثر أهمية وأثراً.
الخوض في الجزئيات ليس مجاله هنا، فالأولوية للتحديات الكليّة الأهم تأثيراً والتي بحاجة لقيام المعنيين بدراستها دراسة جادّة ومواجهتها باحترافية حتى يتقدم القطاع.
نذكر منها اثنين.
الأول ويتصل بضبط الأعداد الكلية على مستوى القطاع، على بُعدين على الأقل. بُعد يتصل بعدد من يتوجب أن يُقبلوا في القطاع بناءً على الحاجات الفعلية لمتطلبات التنمية والتوظيف (وطنياً وإقليمياً)، وبعد يتصل بتوزيع الطلبة بمهارة وعدالة على المؤسسات، عامةً كانت أم خاصة.
وفي البعدين خلل كبير حالياً؛ ففي الأول يتم ربط القبول بالدرجة الأولى بناء على «الضغوط» المجتمعية والرغبة؛ رغبة الطالب ورغبة المؤسسة. وغالباً ما يتعارض مبدأ الرغبة مع مبدأ السعة المناسبة والتوزيع العادل؛ مما يقودنا إلى البُعد الثاني والمُتمثل بوجود تضخم كمّي في بعض المؤسسات، وعجز واضح في بعضها الآخر.
وعدم التوازن هذا غير محمود، إذ يخلق ضغوطاً غير مبررة على البنى التحتية والكوادر التدريسية في بعض المؤسسات، وهدراً في المؤسسات الأخرى التي تتمتع ببنى تحتية وتقنية وبشرية لافتة لكنها غير مُستغلة.
والأثر على جودة المخرجات يكون سلبياً في الحالتين.
التحدي الثاني، ويتم الحديث عنه كثيراً دون فعل شيء يذكر، ويتمثل في تكرار التخصصات «الرائجة» (وليست الضرورية بالضرورة) في المؤسسات، مما يلغي مبدأ التخصصية، بحيث تحتضن المؤسسة كل التخصصات، وتفقد سمتها وميزتها ورونقها، وتصبح كلّها، والتي كانت في زمن ما مختلفة عن غيرها ومُتفرّدة، نُسخاً كربونية عن بعضها؛ على مبدأ «جاك المُمتهن لكل الحِرَف»، كما يقال في المثل الإنجليزي.
يحدث هذا رغم أن قانون التعليم العالي ينص صراحة ليس فقط على مبدأ التميّز بل «التّمايز».
والأمر يتفاقم الآن نتيجة تطبيق مبدأ سليم في جوهره، سلبي في تنفيذه وأثره، والمتمثل في طرح تخصصات «جديدة». جديدة لكن يتلقفها الكلّ، فقريباً تصبح مكرورة ومشبعة ثم راكدة. الدائرة إيّاها.
الحلّ لضبط هذين المُحدّدين المُهدّدين يكمن في الالتزام بمبدأ التّميّز ومبدأ التّمايز. فإذا ما اتُّبعا فإنهما كفيلان بضبط الأعداد من جانب، لأن التوسع الكلي لن يخدم التميز بأي شكل من الأشكال، وضمان التّفرّد من جانب آخر، لأن تكرار التخصصات يتعارض مع مبدأ التمايز.
تحدّيان جوهريان مُهمان ومعروفان، لكن لا تصدّي حقيقي لهما، ربما لغرق المعنيين في التفاصيل على حساب القضايا الاستراتيجية، أو ربما للاستسلام أمام ضغوط الرغبات والأهواء. والنتيجة مخرجات ليست كما ننشد.