بينما كنت أقرأ رسالة عمان، تلك الوثيقة الرفيعة التي خطّها جلالة الملك عبدالله الثاني قبل سنوات، شعرت وكأني أقرأ المستقبل بعين الماضي، وكأن الكلمات التي كُتبت هناك لم تكن فقط بيانًا فكريًا، بل خارطة طريق لزمن نعيشه اليوم بكل تناقضاته.
لقد تحدث جلالته عن الإسلام الحق، المعتدل، السمح، الذي يحمي الإنسان قبل أي شيء آخر، ويزرع في قلبه الطمأنينة لا الخوف. وفي زمن تصدّرت فيه موجات التكفير والتطرف واجهات المشهد، باتت رسالة عمان، لا مجرد وثيقة دينية، بل وثيقة نفسية أيضًا، تُعيد توازن الروح والعقل أمام تسونامي التطرف العاطفي والفكري.
الفكر المتطرف لا ينشأ من فراغ، بل يتغذى على التهميش، وعلى الحاجة لمعنى، والشعور بالعجز. هنا يدخل علم النفس ليقول لنا: إن المتطرف لا يُولد هكذا، بل يُصاغ في بيئة خصبة للانغلاق والانكسار. وما لم نُدرك أن الإنسان المتطرف ليس مجنونًا بالضرورة، بل يبحث ـ وإن بشكل مَرَضي ـ عن هوية، فإننا سنظل نقاتل الظل، لا الجذر.
رسالة عمان لم تكن مجرّد تحصين ضد الفتنة، بل دعوة لأن نواجه هذا الانجراف بتجديد فهم الدين، لا بتأطيره، وبتحرير العقل، لا تسويره. والسيكولوجيا تقول لنا إن الهوية الدينية حين تُختزل في شعارات، تصبح عُرضة للاستغلال. وإن العقول التي تُقصى من الحوار، تبحث عن صوت حتى لو كان متطرفًا.
في الأردن، لا نعيش في فراغ. نحن في قلب صراع إقليمي وفكري محتدم، تُنفق فيه مليارات الدولارات لغسل العقول لا لتنويرها. ومع ذلك، نملك في يدنا مفتاحًا اسمه رسالة عمان، لكن السؤال: هل نستخدمه بما يكفي؟ هل ندرّسها؟ نحللها؟ نُدخلها في مناهجنا النفسية والتربوية والإعلامية كدراسة حالة؟ أم نحتفظ بها كرمز جميل لا يُلمس؟
التطرف ليس فكرة دينية فقط، بل سلوك نفسي اجتماعي يتسلل في غياب العدالة وضعف الخطاب، ويترعرع عندما يشعر الإنسان أنه غير مرئي، أو لا يُحسب له حساب.
وها نحن نعود مجددًا إلى تلك العبارة التي ختمت بها جلالة الملك رسالته:
نؤمن بأنّ الإسلام هو دين الاعتدال والرحمة، والعدل والإحسان، وهو يدعو إلى الحوار والتفاهم، ويرفض العنف والغلو والتكفير.
فهل آن الأوان لأن نُحوّل هذا الإيمان إلى مشروع تربوي ونفسي وثقافي متكامل، يُحصّن عقول شبابنا قبل أن تَتلقفهم أيدي الظلام؟