شكل التدخّل الفاعل من الأردن لوقف العدوان الاسرائيلي الغاشم على غزة من قبل دولة الاحتلال الاسرائيلي، بما يفرض على الاحتلال تراجعاً سياسياً وميدانياً ويغيّر في ميزان القوى الذي كان يدفع حينها باتجاه تصفية القضية الفلسطينية.
وتدخل كهذا قد يكون مرتبطاً بتجربة التفاعل مع الكيان الإسرائيلي والمساهمة الواسعة النطاق دوليا في الدفاع عن الدولة الفلسطينية ومعركة الشعب الفلسطيني الأعزل التي عبر عنها الأردنيون منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة.
إلا أنه رغم مرور ما يزيد عن تسعة شهور من العدوان ارتق الدور الأردني إلى مستوى إثارة المخاوف الدولية لردع الاحتلال عن مستوى جرائمه غير المسبوق ضد سكان القطاع، مما يدعو إلى استقراء خلفيات هذا المستوى من التفاعل، وأسبابه، وآفاق تطوره في المستقبل القريب.
وينطلق أهمية الموقف الأردني بفعل أبعاد سياسية وجغرافية وديمغرافية، إذ يرتبط الأردنيون بروابط وثيقة بفلسطين، بحكم التاريخ والجوار وتداخل العائلات، ولكون الاردن يدرك ويعي اطماع الاحتلال الإسرائيلي بفلسطين بفعل عدوان الاحتلال الإسرائيلي عامي 1948 و1967.
كما أن احتلال الضفة الغربية عام 1967، حصل في ظل اندماجها دستورياً مع الأردن، وهو ما رتّب مسؤولية تاريخية لاستعادتها ويستشعرها الأردنيون عموماً، ويعبّر عنها الهاشميون، وخصوصاً فيما يتعلق بوجود دور خاص للأردن في الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية لا سيما مسرى جد الهاشميين رسول الله صل الله عليه وسلم (المسجد الأقصى).
ورغم العلاقة الوثيقة مع الدول الغربية المهيمنة، بدءا مع بريطانيا ثم الولايات المتحدة، خرج السلوك الرسمي الأردني عن مقتضيات هذه العلاقات، إذ يتمحور الأردن سياسيا ضمن «محور الاعتدال» العربي ما اعتبر تأثيرا على سير الأحداث، لكن بفعل هذا العدوان الصارخ على غزة ما شكل تصاعد الصراع بين الأردن والاحتلال وأي طرف يدعم الاحتلال، ما يدفعه إلى العمل على فرملة المشروع الإسرائيلي في المنطقة ومحاولة تهدئة وتيرة الصراعات إقليميا ما وجد إلى ذلك سبيلا، بخطوات سياسية ودبلوماسية وإعلامية تخرج عن اعتبارات العلاقات مع الولايات المتحدة وحدود المقبول لديها في تعامله مع دولة الاحتلال.
إلا أن تزايد التطرف في حكومات الاحتلال ومساعيها لتصفية القضية الفلسطينية بمختلف ملفاتها، مثل القدس واللاجئين والاستيطان وعدوانه المستعر على غزة، زاد من كلفة الإستراتيجية الرسمية الأردنية تجاه القضية الفلسطينية ورفع مخاطرها على الدولة الفلسطينية وآفاق الاستقرار في المنطقة، إذ يتعاظم الرفض الرسمي والشعبي للحفاظ على حالة السلام والتعاون الدبلوماسي والاقتصادي مع احتلال يوظف مكتسبات هذا السلام الاقتصادية والسياسية والأمنية للبطش بالفلسطينيين وابتلاع أرضهم وخلق ظروف طاردة تهدف إلى تهجيرهم.
وجاء «طوفان الأقصى» ليرفع مستوى التحدي الأردني للتموضع سياسياً، بفعل حالة الغليان تجاه المجازر الإسرائيلية غير المسبوقة في قطاع غزة، مقابل الخيارات السياسية والاقتصادية التي اتخذها الأردن تجاه الصراع مع دولة الاحتلال منذ عقود.
وفي ظل «حقل ألغام» كهذا، أصدر الأردن مواقف سياسية وإشارات إعلامية حادّة تجاه مستوى الجرائم والمجازر الإسرائيلية، خصوصا في ظل تزايد انعكاسات العدوان في غزة على الضفة الغربية، إذ استدعى سفيره لدى تل أبيب وطالبها بعدم إعادة سفيرها إلى عمان.
وتم إلغاء لقاء قمة كان يفترض أن يجمع الرئيس الأميركي جو بايدن بجلالة الملك ورئيسي مصر والسلطة الفلسطينية في عمان في اليوم التالي لمجزرة المستشفى المعمداني التي راح ضحيتها مئات الشهداء في قطاع غزة.
كما اكد رئيس الوزراء بشر الخصاونة بأن أي محاولات أو خلق ظروف لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية المحتلة، سيعده الأردن إعلان حرب. وهو تعبير غير مسبوق منذ عقود من العلاقة مع دولة الاحتلال إسرائيل.
وأعلن وزير خارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي أن الأردن لن يوقع اتفاقية لتبادل الطاقة مقابل المياه مع تل أبيب في ظل العدوان على قطاع غزة.
وعلى الصعيد الإغاثي، أبقى الأردن على مستشفى ميداني له في شمال القطاع، وأرسل مستشفى آخر إلى جنوبه ومستشفى ثالثا إلى الضفة الغربية تحسّبا لتصعيد متوقع هناك. كما أرسل مساعدات إنسانية إلى غزة عبر معبر رفح ومن أراضيه مباشرة.
و إعادة النظر في أي من اتفاقات المملكة مع الاحتلال، و صدور قرار من مجلس النواب بهذا الشأن.
وفي ظل هذا الوضع الإنساني المتدهور في غزة كانت التعبيرات الإعلامية والسياسية الصادرة عن الأردن بأعلى المراتب العليا، بضرورة ردع الاحتلال وكشف جرائمه الوحشية ضد الغزيين، وتماثل تاثيرها بما يذكر لها على مسار العدوان عسكريا وسياسيا، إذ شكلت ردود فعل رسمية أردنية بما توازي مستوى التصريحات الاسرائيلة العالية السقف.ووقف ومساعي نتنياهو وشركاء حكومته لسحب حل الدولتين من على طاولة البحث، وهو ما يزيد من الانقسام السياسي داخل حكومة الاحتلال ويضيق المجال على مناورات نتنياهو الساعية إلى إطالة أمد الحرب وتوسيعها حماية لبقائه السياسي.
ختاماً، رغم صعوبة تداعيات العدوان الإسرائيلي الوحشي على القضية الفلسطينية فإن التحديات الكبرى ترتبط بتوسّع المواجهة مع الاحتلال ومواجهة الفلسطينيين في الضفة الغربية مع الاحتلال، وهو ما يشير إليه مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر. وهذا ما يضع صانع القرار أمام وضع تزداد فيه اتخاذ مواقف يمكن أن يتحملها الشعب الأردني من جهة، وتشكل رادع لدولة الاحتلال والولايات الأميركية من جهة أخرى.