يقال للغريق في ثقافتنا عندما يتعلّق بأيّ أمل للنجاة إنه يتعلّق بقشّة، وذلك للتّعبير عن حالة اليأس من النجاة، لأنّ القشّة لا يمكن أن تنقذ غريقاً، وكذلك يقال لكلّ من هو في مأزق حرج ويبحث عن أي مخرج من هذا المأزق إنه يتعلّق بحبال من الوهم، وذلك للتعبير عن استحالة النجاة بالاعتماد على ما لا يمكن أن يحقّق له النجاة، فإذا كانت الحبال الحقيقية لا تضمن لمن يتمسك بها أن ينجو من مأزقه فكيف بالحبال الوهميّة، بل إنّ الأمر على عكس ذلك تماماً فالقشّة في البحر تزيد الغريق غرقاً إذا اعتمد عليها دون غيرها، وكذلك الحبال الو?ميّة تلقي بمن يتمسّك بها إلى مزيد من السقوط المؤكّد والتهلكة.
ومن ينظر في واقعنا العربي المؤلم يجد حالة غريبة وغير منطقية عندما تسعى الأمّة إلى البحث عن قشّة تنقذها من الغرق أو حبال وهميّة تنقذها من السقوط، مع أنّها ليست بحاجة إلى القشّ ولا إلى الحبال الوهميّة لأنّها تمتلك من الوسائل والأدوات والأعمدة والحبال الحقيقية ما يغنيها عن القشّ والحبال الوهميّة.
ومن الحبال الوهميّة التي يراهن العرب عليها كثيراً متوهّمين جدواها ما يتداوله الناسُ من كتّاب ومؤلفين ومفكّرين ومثقفين وسياسيين أنّ ثمّة فرقاً بين اليهود والإسرائيليين، ويحتفي أصحابُ هذا الرأي كثيراً بما يرونه من مشاركة بعض اليهود المتدينين في احتجاجات ضدّ الاحتلال الإسرائيلي سواءً في فلسطين أو في خارجها، كما يدلّلون على وجهة نظرهم بمواقف فئة قليلة من جماعة ناطوري كارتا التي لا تؤيّد الاحتلال وتتظاهر ضدّ جرائمه في غزّة. والذي أراه أنّ هذا أمرٌ لا يعوّل عليه بأيّ حالٍ من الأحوال، لأنّ هذه الفئة القليلة من ال?هود ليس لها تأثير يذكر في مجرى الأحداث الخطيرة التي تشهدها أرض فلسطين، كما أنّ كلّ يهوديّ يقيم في أرض فلسطين دون موافقة أصحابها هو غاصبٌ ومحتلٌّ ومعتدٍ أثيم، باستثناء من كان مقيماً من اليهود في فلسطين قبل بداية القرن العشرين. ولئن كان يمكن التفريق بين اليهودي والإسرائيلي في الدول التي يوجد فيها يهود، وهي دول كثيرة، فإنّ هذا التفريق غير ممكنٍ إطلاقاً في أرض فلسطين، فاليهود والإسرائيليون في فلسطين هم شيءٌ واحد، ودولة الاحتلال هي دولة يهوديّة قامت على أساس إنشاء وطن لليهود، فلا يجوز تبرئة أي يهودي يقيم على ال?راب الفلسطيني ما لم يكن ممّن عاش في فلسطين قبل بداية القرن العشرين.
وأمّا اليهود الذين يقيمون في دول أخرى غربيّة أو شرقيّة فغالبيتهم العظمى يدعمون الاحتلال الإسرائيلي ويمدّونه بالمال والسلاح والتخطيط والتدبير بل يعملون فوق ذلك على التأثير في سياسات دولهم كي تسهم في دعم الاحتلال وتقويته والدفاع عنه، وقد نجح اليهودُ في ذلك نجاحاً منقطع النظير، وعليه فإنّ يهود العالم أيضاً غير أبرياء وهم شركاء للاحتلال الإسرائيلي في جرائمه وفي اغتصابه أرض فلسطين، إلاّ من رحم ربيّ وهم أفرادٌ لا تأثير لهم في ما يجري على أرض فلسطين. ولذلك فإنّ من الحمق البالغ وسوء التقدير اللامحدود أن نراهن على ?لتفريق بين الإسرائيليين واليهود، أو بين اليهود الإسرائيليين ويهود الدول الأخرى، فكلّهم في نهاية المطاف يهود، وكلّهم إسرائيليون ما داموا يدعمون الاحتلال الإسرائيلي سّراً وعلانية، إلاّ القلّة القليلة التي تنتمي أصلاً إلى أرض فلسطين قبل احتلالها والقلة القليلة من الأفراد الذين لهم مواقفهم وآراؤهم الخاصّة في الفكر والسياسة والعقيدة الذين يخالفون الفكر الصهيوني الاحتلالي. ومن الحبال الوهميّة في هذا السياق أيضاً المراهنة على الانتخابات داخل الكيان المحتلّ والتنافس بين حزب الليكود وحزب العمّال أو بين اليمين واليس?ر أو بين من يطالب بصفقة لتبادل الأسرى مع الفلسطينيين ومن لا يؤيدّ هذه الصفقة، أو بين المعارضة التي يمثلها لابيد وغانتس وإيزنكوت وغيرهم والمولاة التي يمثلها نتنياهو وبن غفير وسموتريش وغيرهم، أو بين من يتظاهر في شوارع تل أبيب والقدس وعسقلان ومن لا يتظاهر، أو غير ذلك ممّا يختلف فيه الصهاينة المحتلّون، فالمراهنة على مثل هذه الاختلافات هي مضيعة كبيرة للوقت وتعلُّقٌ بحبال وهميّة، فهؤلاء المختلفون كلّهم وفي مختلف مواقعهم واتجاهاتهم لم يصل الخلاف بينهم ولو مرّة واحدة إلى درجة التصادم الفعلي، وذلك لأنّهم وإنكانوا ي?تلفون على أشياء كثيرة إلاّ أنّهم مجتمعون على شيء واحد هو المحافظة على الاحتلال والتخلّص من كلّ ما يمكن أن يعكّر صفو هذا الاحتلال حتّى لو أدّى ذلك إلى ارتكاب المجازر ضدّ الفلسطينيين وغيرهم وحراثة شوارع المدن والمخيمات والقرى وتدمير المنازل والمباني والمدارس والمستشفيات وغيرها، فهم على ذلك مجتمعون، ولكنهم قد يختلفون فقط في الوسائل التي يحققون فيها هذا الهدف.
ولذلك فإنّ علينا أن نتنبه إلى أنّ التعلّق بالحبال الوهميّة لن يزيدنا إلاّ سقوطاً وتورّطاً في مآزق لا قبل لنا بها، وأنّ الحبال الحقيقية التي تنقذنا موجودة بين أيدينا وبكثرة، وما علينا إلاّ أن نخرج من دوائر وهمنا ونستمسك بحبالنا المتينة الحقيقية التي تحملنا إلى شواطئ الأمان والنهضة والنجاح.
[email protected]