أعادتني قناة الجزيرة القطرية إلى عقود وهي تقدّم في أحد تقاريرها، شكلاً من أشكال المعاناة التي يواجهها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، جراء همجية الجيش الاسرائيلي، بما فيها من قتل وتجويع وتدمير وتهجير.
ولأننا في الأردن أهل الفِلاحة، فقدكانت الأسرة بجميع أفرادها تحرث الأرض وتزرعها لتحصد مختلف محاصيل الحبوب، مؤونة، ولقضاء حاجاتها.
ولقد عرفنا نحن الأبناء، من الآباء والأمهات، تلك الأدوات التي تُستخدم، كالمحراث والمنجل والشبكة، وانتهاء بالشاعوب والمذراة والغربال والكربال والمقطف والصاع (صواع) وهو وعاء للكيل لوضع الحَبّ في أكياس(شوالات)، عند الانتهاء من دَرْس المحصول- عن طريق الحيوانات–بعد نقله من الحقل إلى البيدر، قبل أن تدخل الماكينات الحديثة للقيام بهذه المهام.
نعود إلى التقرير الذي ما شاهده إنسان يعيش على الكرة الأرضية، إلا وقد انتابته الغصة، وهو يرى أفراداً من أبناء غزة، الصامدين، يستعينون بـ» الغربال والكربال» لتنظيف الحبوب التي تستخدم علفاً للحيوانات، ولإزالة ما علق بها من شوائب، لتكون غذاء لأطفالهم، وقد حرموا أنفسهم منه، لأن هذا «العلف» لم يعد كافياً لإطعامهم جميعاً، لأكثر من وجبة أو يوم، فأي إنسانية موجودة في الكون؟!!.
هذه معاناة من كارثة لم يشهدها العالم في جميع الحروب، رغم كل ما استخدم فيها من أسلحة فتاكة، كالقنبلة الذرية التي ألقتها أميركا على اليابان، إلا أن ما استخدمه العدو الصهيوني في حرب الدمار الشامل، جعل من غزة » الأرض المحروقة» وأهلها ضحايا، لا يماثلهم شعب في العالم وهو يتعرض إلى ما صُنّف بـ"الإبادة الجماعية».
يعود أهل غزة إلى «الغربال والكربال» وأدوات العصر القديم، للحصول على الطعام والشراب، اللذين يفتقدان لقواعد الصحة، ونصب خيام في العراء، تعصف بها الريح وتداهمها الأمطار، ولا تقي أطفالهم شدة البرد القارس، فأي عيش هذا؟.
ولكن المعاناة الأشد قسوة على الأطفال والنساء والمسنين، وحتى الشباب من أبناء غزة، هي عند تعرضهم للإصابات الخطيرة، وقيامهم بمداواة جراحهم بأنفسهم بطرق تقليدية، ما اضطرّهم لإستخدام أكتافهم وحيواناتهم لتكون بديلاً عن سيارات الإسعاف التي لم تكفِ لنقل شهدائهم إلى مستشفيات ومراكز صحية، خرجت عن الخدمة!.
كل هذا، بعد أن تهدمت عليهم منازلهم ومدارسهم وكل مرافق الحياة، ومنهم ما يزال تحت الركام، فلا أيادي الشباب، ولا «الكريك والأزميل » والجرافات، قادرة على انتشال ما فقدوه، لضخامة ما تم تسويته بالأرض.
ما حدث لغزة- وصل لتجريف القبور- وسبقه ما ورد على لسان رئيس الدفاع الاسرائيلي غالانت » إقطعوا عنهم كل شيء، لا ماء ولا كهرباء ولا غذاء، هؤلاء حيوانات يستحقون الذبح»، يعيدنا كله، إلى ما هدد به الرئيس الاميركي الأسبق، بوش الابن، في الحرب على البلد العظيم، وأنه «سيعيد العراق إلى العصرالحجري»، وما أشبه الليلة بالبارحة.
ختاماً، أين النظام العالمي والمجتمع الدولي واحرار العالم، من هول ما يحدث في غزة؟! وماذا ينتظرون، والسفّاح يحمل «المنجل».. يحصد اليوم في هذا الحقل، وغداً في ذاك؟!