تتجلّى معاني البطولة وصورها بشكلٍ واضح بعد ما يقرب من شهر من العدوان الصهيوني على غزّة واستخدام الصهاينة لقوةٍ عسكرية طاغية وأسلحة تدميرية هائلة ومتنوّعة ومحاصرة خانقة للقطاع وحرمان أهله من أساسيّات البقاء على قيد الحياة من ماء وغذاء ودواء وكهرباء ووقود وغيرها، وقصف المنازل والمساجد والمدارس والمستشفيات ومحو أحياء كاملة عن وجه الأرض، إلاّ أنّ ذلك كلّه لم يَفُتَّ في عضد أهل غزّة وأبطالها ومقاومتها، وهو في نظري بطولةٌ لم يشهد لها التاريخ مثيلاً؛ والبطولة في مثل هذه الحالة أن تكون عصيّاً على الانكسار صابراً ع?ى الأذى ومتسلّحاً بإرادة وعزم وتصميم وسعي إلى إدراك الهدف الذي تتطلّع إلى تحقيقه ومتسلّحاً بالإيمان بحقّك وقدرتك على نيله وثقتك بقدرتك وطاقاتك المتجدّدة.
وكما أنّ من أعظم درجات البطولة عدم الرضوخ للضغوط المتنوّعة الأشكال العسكرية والاقتصادية والنفسية والإعلامية التي يمارسها المعتدون، فإنّه ليس من البطولة بأيّ صورة من الصور ما يمارسه هؤلاء المعتدون من جرائم مستغلّين قدراتهم العسكرية وامتلاكهم لأسلحة لا تملكها دولة من دول المنطقة، وليس من البطولة بأيّ حال أن يصبّ جيشٌ آلاف الأطنان من المتفجرّات على رؤوس مدنيّين عُزّل لا يكادون يجدون ما يقتاتون به من الطعام، فيقتل آلاف الأطفال وآلاف النساء والشيوخ، فمثل هذه الأعمال تمثل النقيض التامّ للبطولة ومعانيها، حتّى وإن?نجح هذا الجيش المجرم بقتل الناس وهدم البيوت وإحراق الأرض، فهذه أمورٌ مرهونة بالإمكانيات وليس بالطبائع ومعاني البطولة.
إنّ من أهم معاني البطولة أن يراعي البطل وهو يخوض بطولاته أن لا يلحق أذىً أو ضرراً بأناسٍ آخرين غير أعدائه المباشرين، حتى لو كانوا ممّن يرتبطون أو يختصّون بعدوّه.
وليس من البطولة أن تصطاد عصفوراً بصاروخ عابر للقارّات. أو أن تغتال طفلاً رضيعاً بطائرة (إف 16)، أو أن تهدم خيمة من قماش باستخدام كتيبة دبّابات، فهذه أعمال الجبناء والمذعورين والمهزومين وهي أعمال استعراضية، لكنّ البطولة أن تنجح ببندقية قديمة أو مسدّس صغير أن تهزم جمعاً مدجّجاً من جنود العدوّ وتزرع في قلوبهم الرعب، وأن تواجه فرقة عسكرية كاملة بعدد قليل من رجال المقاومة وتتغلب عليها، وأن لا يؤثر في عزيمتك ضخامة جيش عدوّك ولا حداثة أسلحته وكثرتها، فالبطولة هنا تكون مقرونة بالشجاعة.
ومن معاني البطولة أيضاً أن يكون الباعث لها أخلاقياً نحو تحرير أرضٍ محتلّة من قبل الأعداء، أو مساعدة محتاج أو مضطرّ، أو إنقاذ أسير، أو إسعاف جريح، أو استعادة مسروق أو منهوب، أو ما شابه ذلك. ومتى كان الباعث للبطولة أخلاقيّاً فإنهّا تكون ذات هدف نبيل ويكون بطلها نبيلاً وكريماً ويضرب في أخلاقه وسلوكه النبيل المثل.
ولا بدّ للبطولة أن تكون مقرونة بالحكمة والالتزام بالهدف المحدّد لها والقدرة على السيطرة على الانفعالات والاندفاعات بما في ذلك ممارسة قيمة العفو عند المقدرة متى لزم ذلك، ولا بدّ أن يكون البطل صاحب سيرة طيبة عطرة وأخلاق كريمة كي يثق الناس بسلامة نواياه، وأن لا يكون هدفه من البطولة التباهي والتفاخر واكتساب الأمجاد الشخصية، ولا بدّ أن يكون في نتيجتها نفع للآخرين من قومه أو أهله أو مجتمعه أو المجتمع الإنساني، ومن هنا فإنّ البطولة لها أبعاد إنسانية ولها ارتباط أساسي بالمعاني والقيم الإنسانية.
والبطولة شرفٌ ولقبٌ شريف ولها معانٍ وأبعاد شريفة لا يحظى بها أيّ إنسان بسهولة، وهي فعلٌ حضاريٌ إنسانيّ باهر وأساسها أن تقوم بما عجز عنه الآخرون وتقول ما لم يجرؤ الآخرون على قوله في اللحظات الحرجة خدمة لهم وتحقيقاً لمصالحهم، وتنهض وتتصّدى للقيام بما تقاعس عنه الآخرون بشجاعة وأمانة وإخلاص ووفاء وصدق نيّة وقوّة إرادة ونبل هدف وحكمة وسلامة قصد.
والبطولة أن لا تنكسر روحك إذا انكسرت أرواح الآخرين، وأن لا تجعل نفسك فريسة لليأس إذا فقد الآخرون الأمل، وأن تبقى ثابتاً متماسكاً إذا ضعف الآخرون من حولك، لأنّ من معاني البطولة أن تكون القدوة للناس في الصبر والصمود والاحتمال والثبات والإرادة والثقة بالنفس والتمسك بالأمل.
[email protected]