عبدالهادي راجي المجالي
حين تسلمت إدارة مركز الحسين الثقافي قبل (10) سنوات, وجدت أن أغلب الحفلات التي تقام على المسرح هي للأوركسترا الخاصة بالمعهد الوطني للموسيقى, وأتذكر أول حفلة حضرتها.. كان تعج بالناس, وكان هنالك صمت مريب.. وإحدى السيدات كانت منسجمة مع الموسيقى لدرجة أنها ذرفت دمعة حرة.
أنا قادم من ثقافة: (مرعية يالبنت مرعية..مرعية ولا بلا راعي).. وأجيد (الدحية).. وأحفظ كل أغانيها, وأنا أيضا أعتبر أن أغنية محمد عبده: (لاتردين الرسايل ويش اسوي بالورق).. أهم مقطوعة موسيقية في القرن العشرين, لا أنكر أنني في الجامعة ساهمت في تأسيس فرقة (دبكة) لكني لم أشارك فيها.. كيف علي أن أتكيف مع الأمر؟
أتذكر أني حضرت حفلة في الايام الأولى لتسلمي المركز (بالشماغ), وكنت الحفلة إحياء لذكرى (شوبان).. كان الجو باردا, وقد خرجنا من عاصفة ثلجية, وجلست في المقاعد الخلفية للمسرح ثم (تلثمت).. لم يرق لي الأمر, فأغاني عبدو موسى وتوفيق النمري تعبر عني أكثر, وكنت أظن أن جميل العاص لو أتيح له أن يكون فرنسيا لتفوق على شوبان.
كان هنالك رجل يقود الأوركسترا ويلوح للجمهور بيده, وفي الصفوف الأولى حضرت كوادر هامة من الدبلوماسيين, وأنا بقيت في شماغي ملتصقا بالكرسي الأخير.. وأستمع.
بعد ذلك قررت أن أقرأ هذا العالم وأعرف عنه, قرأت بيتهوفن.. قرأت عن (شوبان) الموزع بين الإرث البولندي والفرنسي.. قرأت عن (موزارت).. عن موسيقى الغرفة, فهمت معنى التناسق بين الالات الوترية والنفخية, عرفت دور قائد الأوركسترا.. صرت أيضا, أعرف تفاصيل دقيقة أثناء العزف عن حدة النفخ لدى عازف الساكس مثلا, ومتى يستولي الكمان على المشهد, ومتى يوائم قائد الأوركسترا.. بين خفوت الصوت وبين انطلاقه.. لدرجة أن ذات يوم لمت عازف (التشيلو).. على قيامه بالتأخر, في الدخول للمقطوعة..
تولدت لي ثقافة هائلة في الموسيقى، وذات يوم قدمت اقتراحا لقائد (الأوركسترا) يتعلق بإلغاء نظام الصوت, وعرفت هذا الأمر من خلال ما قرأت.. فالبعض يعتبر أنظمة الصوت معيقة للصوت (العذري).. وجربنا الأمر ونجح..
صرت أسمع (بحيرة البجع) واشتريت مقطوعات بيتهوفن التسعه.. لكني مع ذلك لم أتخلى عن (مرعية ياالبنت مرعية).. ولم أترك صديقي القديم (محمد عبده).. وبقيت أشارك في حلقات (الدحية) التي تنطلق في الكرك, وبقيت في الشتاء أرتدي الشماغ.. وأجلس في اخر المسرح.. وتطور معي الأمر, بأني كنت أكتب بعض الأوراق لقائد الأوركسترا.. مرتبطة بتوزيع أماكن العازفين من جديد, لأن الصوت يصل خافتا.. وكنت أنغمس في (ضوء القمر) لبيتهوفن إلى الحد الذي جعلني (أعنقر) الشماغ..
أنا لا أتحدث عن تجربتي في إدارة مركز ثقافي, ولكني أتحدث عن الهوية.. هويتي قابلة للتطور واستيعاب المشهد, هويتي قادرة على بناء وطن.. وهي الهوية العروبية المقاتلة.. الملتزمة الثابتة المتجذرة في الأرض, لا أعرف من القادم في الحكومة الجديدة.. ولكن ليكن مشروع الهوية في أولوياته, تنتصر الأوطان حين تتمسك بهذا الثابت.. وتصبح هلامية من دون طعم حين.. يغيب مشروع الهوية.
[email protected]