حين يكون للعالِم موقف

د. زيد حمزة لأني انتمي لجيل نشأ في مدارس فقيرة ضعيفة المستوى لم تحظ الا نادراً بمعلمين يحملون مؤهلات جامعية ولم تكتمل ثانوياتها الاربع بالصف التوجيهي إلا بعد سنوات من سفري ورفاق من نفس هذا الجيل لمواصلة الدراسة الجامعية في الخارج حيث التقينا الاساتذة (العلماء) وبهرتنا كفاءاتهم، فلا عجب إذن أن أفرح في لاحق سنوات عمري وانا أجد بلادي وقد اكتظت بعلماء من ابنائها وأن أزهو بين الحين والحين ببعض منهم وقد بلغوا مستوىً رفيعاً جعلهم يشاركون مثلا في إجراء البحوث مع علماء جامعات عريقة في دول متقدمة، ويكبر زهوي إذ اتعرّف على بعض آخر ممن لم يطيقوا البقاء في ابراجهم العاجية فخرجوا الى المجتمع كي يخدموه بافضل مما يفعل الخبراء الاجانب، وقد بلغ بي هذا الزهو مداه حين نعمتُ وسعدتُ بالتعاون مع عدد من علماء الذرة لأكثر من عشر سنوات في مجال من مجالات العمل الوطني العام فأكبرت شجاعتهم في المواقف الصعبة التي كلفت بعضهم فقدان وظائفهم أو سُدتْ في وجوههم ابواب الرزق حتى اضطر احدهم ان يهاجر ليخدم بعلمه وخبرته بلداً آخر! وكل جريرتهم انهم اعترضوا على تنفيذ مشاريع معينة بطرق تخالف القواعد العلمية التي ينبغي احترامها والتقيد بها وإلا شكلت في نظرهم خطورة بالغة على بلدهم وعلى مصالحه، ولقد ثبت الآن مع دورة الزمان صواب آرائهم وصدق مواقفهم.

قبل ايام وفي خضم هذه المسيرة المجيدة فُجعنا برحيل واحد من هؤلاء العلماء الاردنيين الافذاذ وهو بعد في قمة عطائه كاستاذٍ للفيزياء النووية في جامعة البلقاء التطبيقية، هو الدكتور سائد دبابنة الذي كان قد شغل فيما مضى منصب نائب رئيس مجلس ادارة هيئة تنظيم العمل الاشعاعي والنووي قبل ان يطاح به عام 2009 جزاءً له على انتقاده المنهجي لمشروع تعدين اليورانيوم في الاردن واعتراضه على دراسة الجدوى التي استُخدمت لتبريره والترويج له..

لن ننسى لفقيدنا العزيز ايضاً شجاعته الفائقة عندما دُعينا الى مجلس النواب قبل بضع سنوات ومعنا علماء ومسؤولون سابقون كبار في مجال الطاقة ومختصون آخرون في شؤون البيئة والصحة، للشهادة في مواجهة هيئة الطاقة الذرية وبحضور رئيس الوزراء وذلك أمام لجنة التحقيق التي شكّلها المجلس للنظر في ملف مشروع المفاعل النووي الذي مازال قائماً رغم ان المجلس السابق قد رفضه باغلبية مطلقة، فيومئذ استمع الجميع لشهادة فقيدنا باحترام كبير وهو يفنّد المشروع بسلوب علمي رصين ويكشف عيوبه التي تنذر بنتائج كارثية..

وبعد.. فتلك حقاً قيمة العالِم حين يكون له في هذه الحياة موقفا.. ومهما غَلاَ الثمن.