د. فيصل غرايبة
عشت في تونس بالثمانينيات الفائتة، عندما التحقت بالعمل في جامعة الدول العربية، أي في نهايات عهد رئيسها المشهور بورقيبة، والمسمى بالمجاهد الأكبر لدوره في النضال الوطني، وهو الذي كان يسر بتشبيهه بمصطفى كمال أتاتورك، كرائد لعلمانية الدولة، وكان التوانسة عموما يشعرون بأنه صمام الأمان لبلادهم، إلى أن فوجئ الجميع ببيان للوزير الأول زين العابدين بن علي، صبيحة السبت 7 نوفمبر 1987، يعلن توليه مسؤولية رئيس الجمهورية، بسبب أن الرئيس بورقيبة لم يعد قادرا صحيا على مواصلة مهامه، ولم تتعطل الحياة، في ذلك اليوم المثير، ولم يمنع التجول، ولم ينزل الجيش إلى الشوارع.
بدأت الإذاعة والتلفزيون منذ ذاك الحدث، تذيع آذان الصلاة، وكان هذا ممنوعا، وتبث الأغاني الوطنية، وخاصة لمحمد عبد الوهاب، التي تنادي بالحرية والوحدة والعدالة، ثم تبين أن الرئيس الجديد، يحب أغاني عبد الوهاب، وصار الرئيس يطوف البلاد، وهو يحيي الجماهير واضعا يده على قلبه كإشارة لحبه لهم، ومحاطا بعناصر الحزب، التي تحولت إلى مليشيا للنظام في ما بعد.
كان السبسي يقود الدبلوماسية التونسية في العهد البورقيبي وعند بواكير الربيع العربي والتي اينع بتونس، أنتجت الرغبة الشعبية انتخاب «الباجي قايد السبسي» كأول رئيس عربي منتخب ديمقراطياً، وهو الآن يلقى وجه الله - سبحانه وتعالى - وهو على سدة الرئاسة في ظل ولايته الدستورية، التي ثبت فيها قواعد الديمقراطية في البلاد، وناضل من أجل الشراكة المجتمعية، وأصر على القبول بخيارات الشعب، راضياً بإرادته المقدرة، ويتوفاه الله وفاةً طبيعية وهو يحظى بالإجماع عليه وبالتقدير لجهوده. فاصبح هذا الشعب حزينا لوفاة هذا الرجل الذي التزم بتضامنه معه، فحفظ له التونسيون مواقفه الثابتة وأكبروا فيه ثوابته الراسخة، مجمعين عليه ومتفقين على قيادته، يحافظ على صفائه ويكسب نقاءه، فأطال - عز وجل - في عمره وكتب له حسن الخاتمة.
لقد جاءت صناديق الانتخابات النزيهة بهذا الرئيس، فصان العهد والتزم بالقسم، وحافظ على الصلاحيات، فلم يحتكر السلطة، بل أعلن قبل أشهرٍ من وفاته عن عزمه على عدم الترشح لولايةٍ ثانية، مسلما الراية برحيله لمن نص عليه الدستور. ولا ريب أن الشعب التونسي ليدعو خلفه أن يتأسى به قولاً وفعلاً، ويتمنى الاستمرار على نهجه، والإصرار على سياسته، والحفاظ على إنجازاته، وان تظل كلماته محفوظة وأقواله محترمة، نظرا لإخلاصه ومصداقيته. وأن لا يقيض الله لهم من نوع هؤلاء الرؤساء الذين يصورون أنفسهم بالقادة المخلصين والزعماء الملهمين، ويبشرون بذواتهم بأنهم الحكماء الواعون والخلفاء المتقون، وسرعان ما ينقلبون الى رموز للفساد والظلم والاستغلال وتكميم الأفواه وسفك الدماء وزج المعارضين في المعتقلات.
واللهم عوض الشعب التونسي الشقيق قائدا يستلم الراية ويؤدي الأمانة ويصدق الوعد، ويقود الشعب ويخلص له ويحفظ لما تراكم من انجاز ويمضي به الى الأمام.