د. أحمد يعقوب المجدوبة
يتحدث الكثير من الناس اليوم عن مهارات الثورة الصناعية الرابعة، ومن أهمها ما يعرف بمهارة الذكاء الشعوري أو الإنفعالي.
وهنالك عدة تعريفات للذكاء الشعوري، منها على سبيل المثال لا الحصر: «القدرة على تعرّف الفرد على مشاعره والتحكم بها والتعبير عنها باتزان، وعلى التعامل مع الآخرين بحنكة وتفهّم».
ويركز الباحثون على أنّ تمتّع الأفراد بالذكاء الانفعالي هو من أهم الكفايات الواجب توافرها في الحقبة الجديدة التي دخلتها البشرية للتو – حقبة الثورة الصناعية الرابعة – حتى يتعامل أفراد المجتمع مع بعضهم على نحو بنّاء ويقودوا مجتمعهم إلى مزيد من السلم والتقدم والازدهار.
ففهم الأفراد لمشاعرهم وتحكّمهم بها وتعبيرهم عنها على نحو منضبط ومدروس، يمكّن أفراد المجتمع من التفاعل بإيجابية، ومن طرح القضايا بفاعلية، ومن إجراء الحوارات بعقلانية ومن حل الإشكالات والخلافات برزانة ومن إيجاد الحلول الناجعة للأزمات والخروج منها بقوة ومنعة.
في مثل هذه الحال، حال التحكم بالمشاعر وحسن التعامل معها، تكون المشاعر نعمة، فهي بمثابة الشحنات الإيجابية والطاقة المُحفّزة التي تُمكّن الأفراد من بذل الجهد اللازم والعزم المطلوب للقيام بالمهام المختلفة، فإذا ما انعدمت المشاعر أو بهتت أو خبت، فتتفشى في المجتمع البلادة واللامبالاة.
أما الإشكال فيقع في الحالة المعاكسة للتعبير الذكي عن المشاعر، عندما يتحكم الشعور بالشخص، فيصاب بهيجان العاطفة وتوحشها.
وحالة الحماقة الشعورية هذه – مع الأسف – حالة يشهدها مجتمعنا الآن في العديد من السياقات، بدءاً من الوضع المروري غير الحضاري الذي يصنعه السلوك المستهتر والذي يُكبّد المجتمع خسائر كبيرة في الممتلكات والأرواح، مروراً بابتزاز مؤسسات الدولة الذي يمارسه نفر شاذ من العاملين فيها ومن المستقوين عليها من خارجها فيُربكون أداءها ويضعفونها، وانتهاءً بوسائل التواصل الاجتماعي التي تُجسّد حالة الهيجان والتوحش والحماقة هذه في أبشع صورها.
هي حالة تختلط فيها الأوراق على نحو مُشوِّش، يُدَسُّ فيها السّم في الدّسم، فتدفعنا باتجاه الفوضى؛ حالة تُعطل التقدم وتشدّنا إلى الخلف من ناحية، وتُقوّض أسس السلم المجتمعي والاستقرار الذي نعدّه من أكبر مكاسب دولتنا التي هي على مشارف المئوية الأولى من عمرها.
لقد فقد كلّ من يقترف هذه الحماقة الشعورية، على مستوى القول والفعل، العديد من القيم التي كانت وما تزال صمّام الأمان في مجتمعنا، وأخذوا يمارسون عادات غريبة علينا، على غرار المبدأ المقيت «إن لم تستحِ فافعل ما شئت». هي حالة «خروج» صارخ عن الأعراف والقيم.
وعند الحديث عن الحياء، والذي هو أحد أهم السّمات التي ميّزت ثقافتنا لحقب طويلة، نستذكر مفهومي «الأدب» و"العيب» اللذين لعبا دوراً مهماً في ضبط إيقاع مجتمعنا ورفعة مكانته الحضارية.
ما زال العديد منا يذكر بثناء وفخر إصرار آبائنا وأجدادنا – في البيت والحي والسوق والمؤسسة – على «الأدب» في التعامل، حتى في مواقف الإحباط والغضب، وعلى إشهار سلاح كلمة «عيب» في وجه كل من يخرج عن حدود اللباقة واللياقة.
وكأننا كنّا في زمن مضى، زمن ليس ببعيد، نملك ونمارس أحد أهم مهارات الثورة الصناعية الرابعة التي سبقتنا إليها اليوم مجتمعات أخرى.
بالطبع هنالك – بالمقابل – أغلبية في مجتمعنا تمارس الذكاء العاطفي وتتمسك بالأدب في التعامل واللباقة واللياقة في الخطاب، وتستخدم كلمة «عيب» لزجر الخوارج عن أعراف المجتمع، وهم قلة.
قلة، ولكنّ أثرهم كبير؛ ومن هنا فلا بد من التعامل معهم بحزم، ولا بد لنا من تفكيك الثقافة الهدمية التي يمثلونها ويمارسونها.
مطلوب دراسة أسبابها، ووضع العلاج الملائم لها، لنعيد لمجتمعنا ألقه، على مبدأ «إنما الأمم الأخلاق» من ناحية، ولنسابق الأمم الأخرى في الولوج إلى عالم الثورة الصناعية الرابعة مسلحين بالأخلاق الحميدة والقيم الرصينة، التي طالما ميّزتنا عن غيرنا، من ناحية أخرى.