د. فيصل غرايبة
لقد وفر عصر التواصل الاجتماعي منبراً لمن لا منبر له، عندما نشر الشعور بالذاتية، وزاد من قدرة الفرد على التأثير في عالم مفتوح، بوسائل تعبير منخفضة التكاليف وواسعة الانتشار، ولكن بتنوع لا متناهي قادر على انتهاك حقوق النشر والملكية الفكرية، مما سمح بارتكاب الجرائم عن بعد، وزاد من تعقيد منظومة الأمن الالكتروني، وشجع على اقامة الروابط العابرة للحدود. وذلك في جو بدت فيها سمات مميزة لعصر التواصل تمثلت بوجود علاقات طردية بين الفرد والحرية ووسائل التواصل الاجتماعي، وبازدياد الوعي السياسي بين المواطنين، مما شجع المواطنين على المشاركة السياسية، وزاد من قوة المجتمع المدني، ووسع دور المؤسسات الإقليمية والدولية في تشجيع المواطنين على المشاركة في وضع السياسات العامة لدولهم، ومكن من تناقل الخبرات والدروس المستفادة بين مواطني مختلف الدول.
لقد أفرز مجتمع ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة، الذي نعيش فيه، مجتمعاً رقمياً عالمياً، أفرز بدوره «الإنسان الرقمي» أو»الإنسان الإنترنتي»، الذي يسأل نفسه ماذا سيحصل فيما بعد؟ بدلاً من السؤال التقليدي: ماذا سأفعل؟ فقد أصبح النشاط الاتصالي تياراً مجتمعياً جارفاً لا يمكن لأحد أن يكون بمعزل عنه، وقد أصبح الإنسان فيه أمام كم هائل من المعلومات والأفكار والمشاعر، فالوفرة الاتصالية أصبحت أكبر ظواهر هذا العصر. وتوافقاً مع ما وصل إليه العالم في هذا المجال تبذل محاولات جادة لتحقيق الاتفاق على لغة دولية تفرض نفسها على جميع الشعوب والعقول، والتي عبر بعض الباحثين عن قلقهم ازاءها، من أن تواجه اللغة العربية الفصحى ولغات عديدة غيرها في عصر وسائل التواصل الاجتماعية مصير اللغة اللاتينية، تبقى لغة مكتوبة تعيش مفرداتها ولكنها تبقى خارج الاستعمال. كما طالت التطورات الحادثة والتي دخلت مجتمعنا العربي كغيره من المجتمعات تغييرات فارقة في تكوين الشخصية العربية، التي صارت تتذوق طعم «الحرية الالكترونية»، التي ستفضي إلى البحث عن الحرية من داخل النطاق الضيق لوسائل التواصل الاجتماعي إلى الساحات والشوارع، تلك التي صاحبها تأثيرات أخرى مباشرة وغير مباشرة للتواصل الاجتماعي الإلكتروني، تتضمن التفكك الاجتماعي، وتغير منظومة القيم الاجتماعية، والانفصال عن الواقع والعيش في العالم الافتراضي، وغياب الشريك وعدم قيامه بأي دور حقيقي في حياة أسرته بوقوعه فريسة الأدمان، وبما سمي بظاهرة «أرامل الإنترنت»، وكذلك السعي إلى المزيد ليحصل على الاشباع الشخصي والعاطفي، وفقدان الرغبة في التغيير الذاتي، مما يجعل المتابع متناسياً المسلمات والثوابت، ومنتقلاً من المطلق في الحياة العامة إلى النسبي في الحياة الافتراضية.
لقد أضاف زمناً لا نهائياً؛ مرئياً ومسموعاً ومقروءاً، تراجعت فيه وتيرة التفكير والابداع مقابل تغلب وتيرة الكلام والمشاهدة والمتابعة، ونشأت الكترونية العلاقات والروابط الاجتماعية، مقابل ضعف تأثير الأسرة في سلوك الأبناء، في حين كسرت عزلة المسنين. لقد دخل العالم بفضل وسائل التواصل إلى اقتصاد المعرفة، الذي نمى الاعتماد المتبادل العابر للحدود، وغير وسائل الترويج، فانتشرت السلع العابرة للحدود، ووسائل التواصل الاجتماعي في الأماكن التي تنتشر فيها الصناعات التقنية العالية، وهكذا تفوقت منافع تقنيات التواصل الاجتماعي، التي ساعدت الشركات على التعريف بمنتجاتها، واستقطاب العاملين الجدد، بما يتلاءم واحتياجات الشركات، بصورة أكثر كفاءة، مما زاد في طلب المنتجات التكنولوجية في مختلف المجتمعات المتطورة منها والنامية. يضاف إلى ذلك تلك التأثيرات الأمنية العسكرية، بكسب الدعم الشعبي وبناء قنوات اتصال فاعلة، والتواصل مع الجماهير في الكوارث والأزمات، ومكافحة الشائعات، وتبادل المعلومات المشفرة، والحرب عن بعد، وتحديد أماكن وجود الأشخاص. ولكن الجرائم الالكترونية سوف تقفز إلى صدارة التهديد الأمني الاستراتيجي للدول، وبذا تستحق وسائط التواصل الاجتماعي التركيز بحثياً على الجوانب القانونية والتشريعية لها، بغية تحديد المسؤوليات المترتبة على سوء استخدامها وضمان حماية القيم الأخلاقية والأعراف المجتمعية من الانتهاكات.
عضو المكتب التنفيذي لحزب الإصلاح