الاستماع إلى الصّمت المُريح بدا أفضل بكثير ذلك المساء من مواصلة الإنصات إلى الأغنية... رغمَ أنَّ الأداء كان ل «نجاة الصّغيرة» والنّص للشّاعر «نزار قبّاني»... ثمّ لأكتشفَ لاحقاً أنَّها من ألحان «محمّد عبد الوهاب»!
مثلّثٌ من العمالقة، لكنَّ قصيدة «أسألكَ الرّحيلَ» كانت قد تحوّلت إلى أغنيةٍ متهالكة بلحنٍ مسلوقٍ ممطوطٍ لا هُوّية له، إضافة إلى طبقة الصّوت غير المريحة التي استخدمتها المطربة الكبيرة، والأهمّ هو أنَّ القصيدة جميلة، لكنَّها ببساطة غير غنائيّة!
لعلَّ من المسلَّمات أن ليس كلُّ ما خطَّه القبَّاني أوغيره من كبار المبدعين صالحٌ للغناء، فالشِّعرُ الغنائي أصعبُ وأعقدُ وأشدُّ تأثيراً من ذلك الشّعر المرصوف داخلَ الدّواوين، لأنَّ النّوع الأوَّل هو الذي ينتشرُ في الفضاء الإذاعي مختلطاً مع الهواء الذي نتنفّسُه!
إضافة إلى أنَّ ليس كلَّ قديمٍ جميل في عالم الغناء، وليس كلّ جديدٍ رديء بالمقابل، لكنَّ السَّيّءَ غالبٌ معظم َالأحيان، ونتساءل هنا إن كان ثمّة لجنة مختصّة في كلِّ إذاعةٍ محلّيّة تضعُ معاييرَ ما لما يُبث على أسماعنا ليلَ نهار... فهل يُعقل أن تُذيعَ إحداها في أوِّلِ يومٍ دراسي أغنيةً مطلعها يدعو التلميذة لطرحِ المريولِ المدرسي جانباً حتى تطيرَ معه... وكلام عن أنَّ العاشق الولهان سيتوّجه إلى أهلها لطلبِ يدها، ويا قاتل أو مقتول!
من المسلّمات أيضاً، أنَّ استخدام اللهجات العاميّة لايسيء إلى النَّص، بقدْرِ ما يخدمه، ولعلَّ خيرَ مثالٍ على ذلك ما قدَّمه إلى عالم الغناء الرَّاقي عددٌ من الشُّعراء المصريين الأفذاذ من أمثال صلاح جاهين والأبنودي وغيرهم، وقد يحضرُ الرّحابنة بقوّة في هذا السِّياق، لنقف احتراماً لقدرتهما على تقديم المفردة العامية اللبنانية في لوحاتٍ غنائيّةٍ ساهمت عبرَ عقود في تشكيلِ ثقافتنا العاطفيّة بسموٍ ورهافة وعذوبة...
هذا مع العِلم أنَّهما اطّلعا على التراث الشِّعري العربي وتمثّلاه ثمَّ ليبدعا في انتقاء أجملِه فيقدّماه غناءً بصوت «وديع الصّافي»مثل هذا البيت من شِعر»عمر بن أبي ربيعة « حين قالَ على لسانِ محبوبته:
إذا جئتَ فامنح طَرْف عينيكَ غيرَنا لكي يحسبوا أنَّ الهوى حيثُ تنظرُ!
ونصٌّ آخر للشاعر «علي بدرِالدّين» غنّته فيروز:
أهواهُ من قال ؟ إنِّي ما ابتسمتُ له، دنا فعانقني شوقٌ إلى الهربِ... نسيتُ من يدِه أن أستردَّ يدي!
والأمثلة عديدة، ومهما كتبنا قد لا نفي أولئك المبدعين حقّهم من التّقدير والمحبَّة والامتنان...لذلك كلِّه؛ نأسف، ونحزن، ونفتقد!
ورحمَ الله ُالأيّامَ التي كانت فيها الإذاعات المصريّة تُوردُ اسمَيْ المؤلّف والملّحن قبل بثِّ الأغنية... لنتصوَّر ماذا يمكن أن يحدث لو عدنا لتكريسِ ذلك العُرف حاليّاً؟ تُرى أيُّ شكلٍ من المحاكمات الشّعبيّة كانت ستُقام ضدَّ كتّاب التّفاهة وضدَّ سارقي الألحان جهاراً نهاراً؟
الخلاصة؛ الأغنية ليست ترفاً إعلاميّاً بقدْرِ ما هي أداةُ ارتقاءٍ للذّوق العام والوعي والإحساس... لكنَّ الأمورَ اختلطت فدبَّت الفوضى في فضائِنا الذي بات يئنُّ من هذا التلّوث السَّمعي السَّافر!
مواضيع ذات صلة