د. صلاح جرّار
يخطئ جداً من يظنّ أن الإعراب هو مجرّد الحركات الضابطة على حروف الكلمات، أو أنّه معزول عن سياقه الفكري، فالرفع والنصب والجرّ والجزم لها صلةٌ وطيدة بالمعاني والأفكار قبل أن تكون مجرّد حركات، فهي التي تكشف المعنى المراد في الجملة كما أنّها توجّه الكلمة أو العبارة لتحقيق المعنى المقصود.
وعلاقة الإعراب وضبط الكلمات بالفكر أبعد من ذلك أيضاً، فلا يستطيع الكاتب أن يضبط نصّه بالحركات إلاّ وهو مستوعب لفكرته تماماً ومتمثّل لها ومتمكّنٌ منها، وكذلك القارئ لا يستطيع أن يقرأ النصّ الذي بين يديه قراءة مضبوطة بالشكل، إلاّ بعد أن يستوعب معانيه ودلالاته وأبعاده. ومعنى ذلك أن ضبط النصّ بالحركات الإعرابية وغيرها قراءة وكتابة مقترنٌ بفهمه، وكلّما ازداد فهم القارئ أو الكاتب للنصّ الذي يقرأه أو يكتبه كان النصّ أكثر دقّةً في ضبطه. وهذا دليلٌ قاطعٌ على أنّ حركات الضبط والإعراب عنصر أساسي في عملية الفهم والاستيعاب وإدراك الأفكار وتمثّلها، وبالتالي فهي معينةٌ على تعميق الفكر وترسيخه.
ومن جهة ثانية فإن حركات الإعراب والضبط تحمل في طياتها أحكاماً، وذلك عند تحديد الفاعل بالضمة وتحديد المفعول به بالفتحة وتحديد التمييز بالفتحة أيضاً، على سبيل المثال، ومن المعلوم أن القدرة على إصدار الأحكام لا تأتي إلاّ بعد عملياتٍ عقلية ترجع جميعها إلى التفكير.
ومن جهة أخرى فإنّ العلاقات اللغوية الداخلية التي تعبّر عنها الحركات الإعرابيّة هي أوّلاً وأخيراً علاقات ذات طابع فكري وعقلي، فإدراك العلّة والمعلول والفاعل والمفعول والتمييز والصفة والمفعول لأجله والحال والربط بينها برباط الحركات الإعرابيّة، وقدرة القارئ أو الكاتب على إدراك ذلك كلّه وتمييزه، إنّما يمثّل ذلك عمليات عقلية وفكريّة تعكس قوة النشاط العقلي للقارئ والكاتب.
وإذا كانت اللغة في عمومها مرتبطةً بفكر أصحابها، ترقى برقيهم وتضعف بضعفهم، وإذا كانت حركات الضبط والإعراب ضابطة لتلك اللّغة ومعبّرة عن دقّتها، فمعنى ذلك أنّ هذه الحركات تلقى اهتماماً أكبر وتشهد نشاطاً وفاعلية أكبر في ظروف النهضة الفكرية، ويتراجع الاهتمام بها وبمراعاتها في البيئات الفكرية الضحلة.
وعلى ذلك فإن الإعراب في الكلام العربي هو عنصرٌ أساسي من عناصر الهوية اللغوية العربيّة و أن عدم الاهتمام به هو شكلٌ من أشكال عدم الاهتمام بالهوية العربيّة ذاتها.
[email protected]