الاب رفعت بدر
قبل عشرين عاماً، ابتدأت الكتابة في صحيفة الرأي، وكنت قبلها كاتباً في مجلة «الكلمة» وجريدة القدس، بحكم دراستي في مدينة بيت جالا بفلسطين.
وما جعلني أكتب في الرأي هو تعليق على ما كتبه جندي اسرائيلي على قميصه: ولدت لأقتل Born to Kill، فكانت المناسبة لأخط أول مقال (25/11/1996) تعليقاً وانتقاداً لانتهاك الكرامة الإنسانية، ليس من جانب المقتول فقط، ولكن من جانب القاتل الذي يشوه خليقة الله الإنسانية بأعمال وحشية.
وبعد عشر سنوات، كتبت مقالاً في الرأي كذلك بعنوان هل يولد الإنسان ليقتل؟ (20/11/2006) وأشرت فيه إلى الطرق الوحشية التي بات الإنسان «يبتكرها» في قتل الآخرين، ومثال ذلك استخدام آلة «الدريل» لثقب رؤوس الناس الأبرياء.
واليوم، أقف ناظراً إلى الوراء، إلى مئات المقالات والمحاضرات ووعظات «الأحد» ومقابلات تلفزيونية وإذاعية ، بالإضافة الى مؤتمرات الحوار الديني وغيرها. وأنظر إلى الأسرة البشرية لأراها قد تقدَّمت–بلا شك- علمياً وتقنياً وطرق تواصل ومواصلات، فأصبح النقل المباشر متاحاً في كل مكان، عبر وسائل التواصل وأحياناً – التناحر – الاجتماعية. إلاّ أنّ الإنسان لم يتقدّم أخلاقياً كما تقدّم علمياً. فأصبح القتل قصصاً يومية، ليس في البلدان التي تخوض حالياً حروباً مع نفسها أو مع غيرها، على أرضها أو خارج أسوارها، وإنما أصبحت قصص القتل الوحشية تعبيراً عن ليس فقط «إدارة» بل «انفلات التوحش» الذي يرتكب أحياناً باسم الأخلاق وباسم الدين وحتى باسم الله تعالى.
أنظر إلى الوراء، وأقرأ بعد عقدين من الزمن رسالة جديدة سطرها البابا فرنسيس قبل يومين، وتحمل عنوان: الرحمة والبؤس Misericordia et Misera ، وقد جاءت تتويجاً لسنة الرحمة التي حفلت بنشاطات على مستويات دولية ومحلية. واستأثرت مواضيع الأخوة المهجرين واللاجئين بالعديد منها. وقد برعت لدينا جمعية الكاريتاس (المحبّة) الاردنية في العديد من مبادرات الرحمة في سنة الرحمة. وقد أنشأ البابا يوماً عالمياً للفقر والتفكير بالفقراء والمهمّشين اجتماعيا، ليكون ذكرى حيوية لسنة الرحمة التي تتخطى الآن كونها أياما معدودة لتصبح ، باذن الله ، حالة دائمة وحياة مستمرة.
ثمة بؤس إذاً في عالم اليوم، وأكبر ظاهرة ليست الفقر والجهل والأمية، وإنما هدم الحضارة الانسانية برفض الإنسان لأخيه وبقتله لقريبه وجاره وأحيانا كثيرة لابن بلده ، بل لابن بيته أيضا ، وقد أضيف عليها في القرن الحالي، وفي الألفية الثالثة، التفنن بالقتل والتعذيب ونشر ذلك عبر وسائل الإعلام والتواصل.
لكن في الجهة – بل في الجبهة- الأخرى، ثمة «رحمة» وثمة أشخاص ومؤسسات يقدمون الغالي والرخيص في سبيل إخوتهم الأشد عوزاً والأكثر ألماً. وصحيح أنّ السنوات الأخيرة قد شهدت تنامياً لأعمال التطرّف والعنف والارهاب والتهجير من جهة، لكنّها كذلك قد ابرزت من جهة أخرى تصاعداً– والحمدلله – لأعمال التطوّع والاغاثة وتقديم العون للمحتاجين، فأصبحت هنالك ثقافة للتطوع والالتقاء والرحمة.
بعد عقدين من الكتابة في هذه الصحيفة العزيزة، أحيي رؤساء التحرير الذين توالوا على الخدمة فيها، كما أحيي من تابع المقالات، سواء بعين التقدير واللايك likes، أو بعين الانتقاد وعدم المقدرة على تقبّل رأي مغاير لآرائهم. لكل الأطراف تحيّة، وعلينا جميعاً مسؤولية العمل من أجل تخفيف البؤس أينما وجد ، ومضاعفة ثقافة الرحمة كلّما استطعنا الى ذلك سبيلا.
والله الموفق...
[email protected]