بلال حسن التل
شكلت ندوة «الأوقاف الذرية في القدس» التي عقدت في عمان يوم الخميس الماضي برعاية ومشاركة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، وبتنظيم من منتدى الفكر العربي والمعهد الملكي للدراسات الدينية، حلقة جديدة من حلقات مشروع «القدس في الضمير» الذي أطلقه سموه منذ عقود، ومازال يتابعه بهمة وإصرار من شأنهما المساهمة في أن تظل القدس حية في الضمير الإنساني، كما هي حية في ضمير سموه الذي يؤكد إصراره على بقاء القدس حية في الضمير على أن علاقة سموه بالمدينة المقدسة ليست علاقة سياسية آنية، ولا علاقة مصلحة عابرة، لكنها علاقة روحية راسخة تزيدها الأيام متانة وثراء وغنى، يغذيها ثراء معرفي بالقدس يتزايد لدى سموه مع الأيام.
ومع تزايد هذا الثراء المعرفي يزداد ارتباط سموه بالقدس، ويتعاظم اهتمامه بشؤون المدينة، حتى لم يعد المرء بحاجة إلى كبير عناء حتى يكتشف أن الدفاع عن القدس صار لدى الحسن بن طلال مهمة دائمة، تحولت إلى هم يستغرق سموه، ويشحذ همته العالية للمزيد من العمل في سبيل هذه المدينة المبتلاة، وبذلك يكون سموه قد حاز أركان الإخلاص الثلاثة في العمل الروحاني « المهمة والهم والهمة»، وهو إخلاص يغذيه إحساس لدى سموه بالرباط التاريخي بينه وبين المدينة المقدسة، ففوق ما تمثله المدينة لكل مسلم وعربي مسلم ومسيحي من قيمة دينية وتاريخية، فإنها لدى سموه المدينة التي ارتبطت ارتباطا مباشر بأجداده، ابتداء من جده الأعظم محمد عليه السلام الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في القدس، وصولاً إلى جده المباشر عبدالله الأول بن الحسين الذي استشهد في المسجد الأقصى، مروراً بجده الشريف الحسين بن علي الذي ضحى بملكه من أجل القدس وفلسطين، واكتفى من الدنيا بأن يدفن في رحاب المسجد الأقصى.
هذا الإحساس بتاريخ المدينة من الأسباب الرئيسة التي تدفع سموه للإصرار على تكرار دعوته للحفاظ على البعد الجمالي والمكاني للقدس، ذلك أن هذا البعد هو المكون الرئيس للهوية الحضارية والتاريخية للمدينة، ولتميزها بين سائر المدن حتى التاريخية والمقدسة منها، ذلك أن للقدس فرادة دينية لا تتوفر لسواها من المدن، فهي المدينة الوحيدة التي تهوى إليها أفئدة أتباع كل الديانات السماوية، مثلما أنها المدينة الوحيدة التي تعاقبت عليها وامتزجت فيها كل الحضارات الإنسانية، مما أعطاها بعداً جمالياً ومكانياً فريداً، وهوية حضارية متميزة تجعل من دعوة الحسن بن طلال للحفاظ على هذا البعد، دعوة إنسانية نبيلة تستدعي أن يلتف حولها أتباع الديانات السماوية وكل المعنيين بحوار الحضارت والثقافات التي تشكل القدس نموذجاً حيا له.
يقودنا الحديث عن دعوة صاحب السمو الملكي الحسن بن طلال إلى الحفاظ على البعد الجمالي والمكاني للقدس، إلى الحديث عن دعوة سموه الثانية والتي لا تقل عن الأولى أهمية، أعني بها دعوة سموه إلى استعادة مكانة القدس العلمية في تاريخ أمتنا على وجه الخصوص وفي تاريخ الإنسانية على وجه العموم. عبر سؤال سموه عن كيفية رفع العتبة المعرفية في القدس، لتسمو فوق الحسابات، وهنا لابد من التذكير بأن تضخم الجانب السياسي في قضية القدس بفعل الاحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة، أخفى عن الكثيرين الدور العلمي والتعليمي المتميز الذي لعبته هذه المدينة في تاريخ البشرية، ليس في مجال الأديان وعلومها فقط، بل في سائر العلوم والمعارف، وأي قارئ لتاريخ المدينة سيدهش من حجم المكتبات العامة التي كانت تعج بها، ومن حجم الوثائق والمخطوطات التي تغص بها مكتبات القدس، ومثل ذلك من عدد العلماء الذين سكنوها لينعموا ببيئتها العلمية، بالإضافة إلى عدد العلماء من أبنائها، وهذا الثراء العلمي الذي يعرفه جيدا صاحب السمو الملكي الحسن بن طلال، يشكل الأرضية الصلبة لدعوة سموه إلى رفع العتبة المعرفية في القدس فوق الحسابات، ذلك أن التراث العلمي والمعرفي للقدس هو جزء أساسي من التراث الإنساني الذي لا يجوز أن تعصف به الصراعات أو أن تتقدم عليه.
توالت دعوة الحسن بن طلال حول القدس وفي سبيل القدس وبقائها حية في الضمير أثناء مشاركة سموه في ندوة « الأوقاف الذرية في القدس» والجلستين التحضيرتين لها، وهي دعوات ليست جديدة فهي جزء أساسي من فكر سموه المشغول دائما بالقدس، وبضرورة إبقاء جذوة الأمل متقدة عند المقدسين مسلمين ومسيحيين، من خلال دعم صمودهم وإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم وهذه هي دعوة سموه الثالثة التي جدد سموه التأكيد عليها في ندوة الأوقاف الذرية في القدس، بل لعل الهدف الرئيس للندوة هو البحث عن سبل إبقاء شعلة الأمل متقدة لدى المقدسيين، ومن هذه السبل تفعيل دور الوقف الذري ليكون عنصر بناء وثراء لأبناء القدس وصمودهم.