د. صلاح جرّار
لا يخلو أيُّ شخصٍ، ولا سيّما من المثقّفين، من أن يكون له موقفه ورأيه الخاصّ إزاءَ حَدَثٍ ما أو نزاعٍ ما أو شخصيةٍ ما، ولا يخلو من أن يكون متأثراً بما يروّجه هذا الفريقُ أو ذاك وما يبثّه من دعايةٍ لاستقطاب الناس إلى جانبه وتنفيرهم من خصومه. لكنّه إذا اكتشف أن الجهة التي ينحاز إليها قد مارست الكذب أو الافتراء أو المبالغة في حادثةٍ ما أو خبرٍ ما، فإنّ ثقته تهتزُّ بهذه الجهة وبكلّ ما تسوقه من أخبار وتقارير، وربّما أدّى به ذلك إلى تراجعه عن تأييده ومناصرته لها.
وقد يهدف الكاذبُ في مثل هذه الأمور إلى تعزيز موقفه، وإن كان صاحبَ حقّ، إلاّ أنّه بكذبه يضرُّ بقضيّته التي يدافع عنها ويعمل من أجلها، وهو بذلك يعزّز موقف عدوّه، ولا سيّما إذا كانت كذبته مفضوحة ولا يتقبلها العقل أو المنطق.
وما يُقال عن الشخص أو الطرف الذي نؤيّده يمكن أن يُقال عن الطرف الذي نخالفه أو نقف ضدّه، فإنّ ما يصدر عنه من كذب أو افتراء يعزّز معارضتنا له ويجعلنا أكثر تشبّثاً بآرائنا فيه ومواقفنا منه.
إنّ أهمّ سبب يجعل المثقف أو السياسي أو المفكّر يتراجع عن تأييده لطرف ما أو يتمسّك بمعارضته لطرفٍ آخر، هو أنّه عندما يكتشف كذبَ هذا الطرف أو ذاك فإنّه يستاء كثيراً من محاولة استغفاله أو استغبائه بتقديم معلومات وأخبار مزيّفة وعارية عن الحقيقة أو أكاذيب مضلّلة أو أخبار مبالغ بها، فتهتز ثقته بما سبق أن بنى عليه مواقفه، حتّى لو كان الطرفُ الذي يؤيّده صاحب حقّ ويستحق المساندة والدعم.
إنّ المبالغة أو التهويل أو الكذب أو التبخيس لبعض الحقائق بهدف تعزيز الموقف غالباً ما ترتدُّ سلباً على صاحبها عندما تتكشف للمتابع، وتضرُّ بالهدف المقصود منها.
وتنسحب هذه القاعدة على كثير من الأمور في حياتنا، فقد توجد ظاهرةٌ أو مسألةٌ أو اعتقادٌ ممّا ينحاز الناس إليه ويقبلون عليه بكثرة، فإذا لاحظوا أن مبالغات أو كذباً قد أسهم في دفع الناس إلى هذا الانحياز، ربّما أدّى ذلك إلى تراجعهم عنه وعاد بالضرر عليه، ما لم يكن الناسُ من البساطة والغفلةِ والاندفاع والتعصُّبِ ما يجعلُ أيّ كذبة أو مبالغةٍ تنطلي عليهم حتّى لو كانت مجافية للمنطق.
إنّ المنطق يقتضي أن لا نرضى لمن نحبّ أن يكذب علينا بأيّ حال حتّى لو كان صاحبَ حقّ، وكان كذبه يصبُّ في مصلحتنا.
[email protected]