رأينا
استكمالاً للأوراق النقاشية الخمس التي طرحها جلالة الملك عبدالله الثاني في شكل متتابع واستقطبت اهتماماً شعبياً وثقافياً وفكرياً واسعاً، أسهم في إثراء هذه الأوراق ووضعها في المكانة التي تستحقها في اطار الجهود الحثيثة التي يقودها جلالته لتكريس الاردن نموذجاً ديمقراطياً يحتذى في المنطقة العربية بأسرها وبخاصة وسط اجواء من الحرائق والحروب والمواجهات والعواصف التي تفتك بمنطقتنا ومجتمعاتنا العربية والاسلامية والتي برز فيها ومن خلالها دور هدام وخطير لخوارج العصر وارهابييه الذين خرجوا عن كل النواميس والأعراف والتقاليد الاسلامية والعربية، تأتي الورقة النقاشية الملكية السادسة، في توقيتها المناسب وتضع القواعد التأسيسية للدولة المدنية الاردنية التي نصبو اليها جميعاً، وكي لا تترك الامور والمفاهيم والأطر الفكرية الناظمة لهذا النموذج الحضاري، نهباً للصراعات والردود المتشنجة او تلك المشككة او الرافضة عبر خلطها للمفاهيم وانعدام قدرة اصحابها على التمييز بين مفهومين التبس على هؤلاء التفريق بينهما او هم يُصرّون على رفض مفهوم الدولة المدنية ممارسة وتطبيقاً ولهذا فانهم يضعونها على قدم المساواة مع مفهوم الدولة العلمانية.
هنا يضع جلالة الملك عبدالله الثاني النقاط على الحروف ويحدد الأطر والمصطلحات والمفاهيم حاسماً في شكل لا يقبل التأويل، ان سيادة القانون هي اساس الدولة المدنية مذكرا في الآن ذاته بأن اعلانات الولاء والتفاني للأردن، تبقى مجردة ونظرية في غياب الاحترام المطلق للقوانين ما يضع الجميع في بلدنا افقياً وعامودياً امام تحديات حقيقية يجب وبالضرورة ان نواجهها بمسؤولية عالية وانضباط وجرأة وترجمة حقيقية سلوكاً وعملاً وارتباطاً وثيقاً بالتحولات الديمقراطية التي ستنجم عن نموذج عظيم وفذ كهذا الذي يدعو جلالة الملك الى تكريسه في الأردن.
لهذا ذكّر جلالته الجميع في مستهل الورقة النقاشية الجديدة بمسارات الاصلاح السياسي مثل تطوير الممارسات الضرورية للديمقراطية والأدوار المأمولة من كل طرف في العملية السياسية والهدف النهائي المتمثل بالوصول الى المستوى المنشود من المشاركة الديمقراطية لافتاً جلالته الى الأحداث والتطورات التي تسارعت منذ طرح الورقة النقاشية الخامسة وبخاصة على الصعيد الاقليمي، حيث حدثت تطورات كثيرة، فتعمقت النزاعات وما زالت منطقتنا تشهد تحولات جذرية، تنتج عنها عواقب وخيمة على دول الاقليم، كان لها اثرها بالتأكيد على الاردن، ما دفع جلالة الملك الى تذكير الاردنيين ايضا بانه قد لا توجد دولة في التاريخ الحديث تحملت آثار الصدمات الخارجية اكثر من الاردن، الأمر الذي يعني اذا ما اخذنا في الاعتبار كيف تعاملنا مع مثل هذه الصدمات الخارجية، بانه وعلى الرغم من كل ما يحيطنا من نزاعات وحروب وانهيار الدول وتفسخ لمجتمعات عريقة، إلاّ اننا نثبت لانفسنا وللعالم أجمع، كل يوم وبعزيمة كل مواطن اردني كم نحن اقوياء.
من هذه الرؤية المتفائلة والواثقة ينطلق جلالته في تحديد الأسس المتينة التي سنبني عليها دولتنا المدنية والتي هي كما يجب على الجميع الثقة والفهم بانها ليست الدولة العلمانية، حيث ان في الدولة المدنية، الدولة هي المسؤولة عن تطبيق القانون وإنفاذه والمواطن نفسه يتحمل مسؤولية ترسيخه في حياته اليومية، وسيادة القانون هي الجسر الذي ينقلنا لمستقبل افضل وضمان حقوق الاقلية متطلب لضمان حقوق الاغلبية في ظل ادراك الجميع ان التنوع هو مصدر للازدهار ورافد للاقتصاد إذا ما أُريد له ان لا يكون شعلة للفتنة والعنصرية والنزاعات.
يمضي جلالته في طرحه الانيف والقادر على الوصول الى عقول ومدارك ابناء شعبه بسلاسة وقناعة، في التأشير على جملة من المبادئ والحقائق التي يجب ان تسود في اطار الدولة المدنية حيث يجب تطبيق القانون على المسؤول قبل المواطن، دون محاباة او تساهل في الوقت عينه الذي يجب ان توجد فيه ادوات رقابة فعالة، وفي مفهوم الدولة المدنية فإن هذه الدولة يجب ان ترتكز على المواطنة وتقبل الرأي الآخر وتستند الى الدستور في ظل الثوابت الدينية والشرعية، مطالباً جلالته كل مواطن اردني بأن يكون العهد بين الجميع هو مبدأ سيادة القانون بما هو الاساس في سلوكنا وتصرفاتنا، الأمر الذي يضمن ان يتمكن كل جيل من حماية سيادة القانون وادارة مؤسسات الدولة حتى لا تترسخ الولاءات الفرعية فيه على حساب الوطن والعمل بلا كلل من أجل بلورة استراتيجية لتمكين الشباب وتوفير المنعة له من الافكار الظلامية المنحرفة.
الورقة النقاشية الملكية السادسة حافلة بالافكار والرؤى والقراءات المعمقة التي يدعو فيها جلالته الى الانتقال من النظرية الى التطبيق والتأمل في المسارات الاصلاحية التي انجزناها وما يتوجب علينا ان نفعله من اجل المراكمة على هذه الانجازات والانتقال بها ومعها الى مرحلة وأُفق جديدين.