لطلما بحثت عن اجابة تريحها تحسم التساؤل الذي سكن وعيها منذ عقد زمان:
لماذا جاء « نصيب « اختيها الاصغر منها وبقيت هي تنتظر، حتى اسقطت من حسابها الامل ورسخ في وجدانها انها سوف تمر عبر هذه الحياة دون « نصيب»!
مع توالي السنوات التي كانت تسير بالعمر الى مراحل تتناقص عندها فرص « النصيب « اخذ هذا السؤال بالتلاشي وان كان احيانا يطفوا حين يسري حوار دافيء، في « عصرية « فنجان قهوة، تتشارك فيه مع امها التي تطرح هذا التساؤل ولكن بطريقتها التي لا يغيب عنها الامل دائما تختم به الام حوارها لتجعله في صيغة امنية : الزواج قسمة ونصيب ولكل بنت منه لا بد نصيب وسياتيك ذات يوم هذا «النصيب « وتضيف، « كل تأخيرة وفيها خيرة « .
ولعلها وجدت تعويضاً عما فاتها لتأخر النصيب، في ما انصرفت اليه من العناية باطفال الشقيقتين هذه المهمة التي كانت تعتبرها في البدايات فرصة توفر لها تجربة تكتسبها لتتقن التعامل مع الاطفال،عناية وتربية والماماً بالاحوال التي تمر بها الطفولة، الى ان يكتسب الطفل قدرة ومناعة على مواجهة الحياة وحده عند الانصراف لغيره، وبين « الجدة « ومن بعدها « الام « بقيت الخالة توزع حنانها على اطفال كانت ترى انهم اطفالها دون ان تلحظ ان هذا العناية والرعاية جعلتها اكثر رقة و حرصاً على العلاقات الاسرية .
حين اصيبت الام بداء السكري، جاء هذا المرض ليشكل منحنى واضحاً في حياتها، بدأت رعايتها وعنايتها للاطفال تتراجع واتجهت نحو الام التي ضعف اداؤها الحياتي، الى ان كان ذات يوم، حين عادت من عملها لتكتشف ان الام « حرقت « قدميها بالماء المغلي الذي اندلق عليهما، فكان هذا الحدث منعطفاً آخر جديداً حول اتجاه اهتماماتها للام التي جعلت اصابتها بالسكري شفاءها من الحروق مستحيلاً، هكذا انتهى الامر الى ان فقدت الام ساقيها وحين رأت ما حدث لها وجعل منها مقعدة التصقت بالكرسي المدولب وجاءتها الجلطة الدماغية لتصيب نصف جسدها بشلل كامل لم يقدر الطب على فعل شي اتجاهه ليس هذا فحسب بل ان الطب ذاته لم يجد تفسيراً لما اصابها من فقدان الذاكرة ايضاً!
هل وقعت على اجابة لتساؤلها حول النصيب؟ هل كان ذلك بناء على ما كان يخبئه الغيب؟ ربما ... صار واضحاً ان حياتها منذ الان ستكون وقفاً على خدمة الام التي غدت مقعدة فاقدة الذاكرة، لا تقدر على فعل شيئ ليس للآخر ولكن لنفسها فكانت هي الان التي تفعل كل ما تحتاجة الام في حياتها وغاب تماماً عن وجدانها سؤال «النصيب» الذي بدا انه يسخر منها، حين طرق بابها مرتين، الاولى بيد ابن الخال الذي يريد ان يتنقل الى بلاد الغربة، والثانية بيد ابن احد معارف الاب الذي احال الاجابة على طلبه اليها، فكانت الاجابة بالرفض القاطع وبعبارة « لقد كرست حياتي لخدمة ابوي، امي الان بامس الحاجة اليّ و الباقي من ايام حياة ابي لن يكون اقل حاجة ... هكذا مر من العمر عقد زمان آخر.
كانت تخطت الاربعين من سنوات العمر، حين آن اوان رحيل الام بعد سنوات اقتصرت فيها الحياة على خدمتها طوال كل زمن الليل والنهار، هذا الرحيل الذي سلبها الشاغل الوحيد في الحياة لتكتشف حجم الفراغ الذي تمدد على سواد الليل وضوء النهار، وحين بدأت صحه الاب بالتراجع افزعها ما يمكن ان يكون عليه حالها حين لا يبقى من يحتاج اليها ... او لا تجد من يستجيب لها ان احتاجت اليه، ايقنت ان القادم من ايام الحياة قد يكون اكثر عتمة ... فعادت اليها هواجس « النصيب « الذي يبدو انه ملّ الانتظار فرحل .
لكن ... زيارة ابن الخال العائد من بلاد الغربة، لم تكن لغايات العزاء فقط، ففي تلك الليلة نامت وهي تردد :
- لما لا ... صحيح هو صار عمره عند نهايات العقد الخامس ... لكن انا ايضا دخلت من بوابة الاربعين!