د. نزار جمال حداد
رئيس الاتحاد النوعي للنحالين الأردنيين
[email protected]
في يوم الجمعة 16 أب 2013 وبعد الانتهاء من عناء قراءة الصفحات الإخبارية الثقيلة حول الحالة الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة، وصلت إلى صفحة «أبواب» في صحيفة كل الأردنيين التي تناجي هموم الوطن واحتياجاته. وعادة ما نجد في هذه الصفحة ملاذا للنفس الباحثة عن الأخبار العلمية الخفيفة، والمقالات الأدبية الشيقة، وثمة مواضيع فيها غذاء للروح وللجسد. وخلال قراءتي للعناوين، لفت انتباهي عنوان «شجرات كينا زرعها الأستراليون!!» ، وهو مقال للأستاذ وليد سليمان ، مدعّم بصور من عين ثاقبة لمصورها الفنان أسامة العقاربة. وقد خالجني بين ثنايا أسطر المقال عبق عمان القديمة، ورائحة جدرانها التاريخية قبل أن تعرف غرس الحجر بدل الشجر في أكثر أرجائها.
أبدع الكاتب وليد سليمان في طرحه لخواطر صديقه الباحث والكاتب سليم قونة حول أشجار الكينا في عمان، وحول تاريخها ومصادرها، ومن زرعها، وأين كان ذلك، إضافة إلى واحتطابها والتخلص من معظمها إن لم يكن كلها لإقامة بغرض إفساح المجال لشق شوارع فرعية وبناء محلات تجارية. وهكذا، أزهقت روح الأشجار واختفى رونق المكان. وحسبي في هذه الخاطرة أن أضيف نقاطا صغيرة على بعض الحروف التي خطّها الكاتب، وأقول: شجرة الكينا، أو ما يعرف عند بعض العرب «الكافور»، واسمها العلمي اليوكاليبتوس، هو شجرة مدخلة إلى عالمنا العربي من أستراليا، ويوجد منها في موطنها الأصلي قرابة 700 نوع، ناهيك عن الأنواع الناتجة عن التلقيح الخلطي الطبيعي بين هذه الأنواع المختلفة، إضافة إلى الأصناف المتنوعة المنتخبة بالطرق العلمية بناءً على خواص مرغوبة محددة.
ولعل المعلومة التاريخية أن القائلة بأن الجنود القادمين من قارة أستراليا، والعاملين مع الجيش البريطاني وحلفائه في الحرب العالمية الأولى قد زرعوا الكثير منها معلومة حقيقية، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي تؤكد على احتمالية وصول بذورها إلى المنطقة قبل ذلك بكثير، وخصوصا مع نهايات القرن الثامن عشر، حيث أقدم عدد من علماء بريطانيا، وعدد من المستوطنين البريطانيين الجُدُد في أستراليا على تصدير بذارها إلى شتى بقاع الأرض، لإعجابهم بسرعة نموها وغزارة إنتاجها من الخشب. كما وتشير المراجع العلمية إلى زراعتها في عام 1884م في بعض مناطق الضفة الغربية، وعلى مقربة من زهرة المدائن.
وقد كان لمديرية الحراج في وزارة الزراعة دور هام في توسيع انتشار زراعة أشجار الكينا في الأردن، وخصوصا في سبعينيات القرن الماضي، حيث زرعت في حينها في موقعين رئيسين، الأول في منطقة العدسية في الأغوار، والثاني في منطقة وادي اليابس (الريان حاليا)، وهو ذات الوادِ الذي تغنى به الشاعر عرار في عشياته، هذا وتتابعت هذه العملية في السنوات التي تلتها لأسباب عدّة؛ ففي البدايات عُرِف عنها بأنها شجرة مُستَهلِكة للمياه، ومتحملة للمياه ذات الجودة المتدنية والأسنة، فَعَمدَ المواطنون منذ النصف الأول من القرن الماضي إلى زراعتها على مقربة من الحُفَرِ الامتصاصية. كما عَمدَ المزارعون إلى زراعتها كمصدات للرياح كونها باسقة الارتفاع. ودخلت شجرة الكينا في الصناعات الزراعية لجودة خشبها في إنتاج صناديق الخضار والتي يطلق عليها السحاحير.
وعودة إلى ما جاءا به كاتبُنا وصديقه المؤرخ، أود أن أذكُرَ أن من بين أشجار الكينا التاريخية في الأردن- شجرة عجلون، والتي انتهك حرمتها وأضعف قِوَامَها الشارع الرئيس، الذي يشق طريقه فوق جذورها ميمنة وميسرة، لتجد نفسها محاصرة بطبقات من الاسفلت والحجارة تخنقها من كل جانب. إنها تلك الشجرة الشهيرة، التي كنّا في رحلات طفولتنا المدرسية نستمتع بالتسابق اليها لنحيط بها، نحن، طلاب الصف، وأيدينا متشابكة، لقياس قطرها. لقد كانت تظلل أكناف مسجد عجلون التاريخي، ويستفيء بظلالها بائعو تفاح، وتين، وتوت، ومشمش، وكرز عجلون.
وقبل بضع سنوات كان شارع جرش القديم يطلق علية بحق شارع جرش السياحي، لكونه كان يزدان بجمال المئات منها والتي اجتُثّت من جذورها، لمد شارع اسفلتي، حَرَم المنطقة رونقها الأنيق التي كانت فيما مضى تتباهى بجمال اخضرارها. ولا نزال نشاهد «قرامي» بعضها متناثرة على قارعة الطريق تُنتَهَشُ بين الفينة والأخرى من قِبل الحطابين.
لم تخلُ عروس الشمال من أشجار الكينا المعمرة وعلى رصيف شارع أيدون، مقابل مدرسة إربد الثانوية للبنات. كانت تلك الشجرات الضخام محط أنظار العاشقين، الذين استظلوا تحت أغصانها، وحفروا على سيقانها أحرفا تشير إلى أسماء المعشوقة معشوقاتهم من بنات المدرسة. ولم يَقِل عشق النحالين لهذه الأشجار المكتسية بأخضر اللون عن عشق الصبية للفتيات المتسربلات بأخضر مراييلهن المدرسية. لذا، اختار النحالون زراعتها في المناطق المحيطة بمناحلهم، ومنازلهم، وأينما حل ترحالهم بنحلهم، لغزارة إنتاج النحل من العسل بوجودها.
وللتمييز بين الصنفين المنتشرين تاريخياً في الأردن، أُطلق على أحدهم الكينا واسمه العلمي «Eucalyptus camaldulensis»، وهو أكثرها انتشاراً، وسطح ساقه أملس وذو لون أبيض. أما الصنف الأخر فقد سَمّاه أبناء الهية في وادي البصاص في الكرك «كينا أبو فروة» واسمه العلمي «Eucalyptus gomphocephala». كما انتشر على نطاق ضيق في الأردن زراعة نوع كينا يعرف بالنوع الغربي «Eucalyptus occidentalis « ، إلا أن الاقبال على زراعته كان محدوداً لتأخر إزهاره.
وقد أدخل بعض الباحثين المختصين في المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي في عام 2000 زهاء أربعين سلالة من الكينا، والتي تتباين في شكلها حد الغرابة، لتجد من بينها المتقزم، والمتعملق، والمنتج للخشب، وغزير الأزهار وشحيحها، وزكيّ الرائحة وبدونها. وقد تم ادخال هذه الأنواع بهدف إحلالها مكان أشجار الكينا واسعة الانتشار؛ وذلك لاستهلاكها العالي للمياه، وجفاف الكثير منها بسبب الاجهاد المائي والبيئي، سعياً وراء تطوير مراعي نحل العسل في الأردن، وزيادة الرقعة الخضراء، فزرعها فريق مديرية بحوث النحل بالتعاون مع جُند البيئة الخضر من مديرية الحراج والمراعي، بِدءا من غابة السلام في العقبة، وصولاً إلى المشتل الحرجي في قرية عقربة.
وبعد عمل دام ثلاثة عشر عاماً من المراقبة تم خلالها انتخاب ستةِ أنواع هي الأمثل بينها جميعاً، والأكثر تكيفاً مع ظروف البيئية الأردنية من شح في الأمطار واحتطاب جائر، لتغطي بدورها عند زراعتها اثني عشر شهراً من الإزهار في تنوع مع بعض الأشجار المحلية.. وكان أصل أغلب تلك الأنواع الناجعة من صحراء أستراليا، مما جعلها تبدو أكثر نظارة في الأردن منه في موطنها، كما أنها تبدو أكثر انشراحا عندنا لكونها ليست مستساغة من قِبل الاغنام، ولخلو منطقتنا من دِببة الكوالا، وهي الدِّببة الوحيدة التي تستسيغ أوراقها. وبالتعاون مع مديرية الحراج في وزارة الزراعة يجري تشتيل هذه الأنواع من أجل إكثارها، وتوزيعها بالمجان على المواطنين. ويعتبر المجمع النباتي المزروع في محطة مرو الزراعية ألبوماً طبيعيا واضحاً يظهر التباين بين هذه الأنواع المختلفة.
عرّج الكاتب على حقبة تاريخية هامة حينما أورد قول الروائي مفلح العدوان في مرجعه « بوح القرى» عن شجرة «عين أم العروق» ، التي أُعجب بها جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال، عندما استفاء بظلالها، وهو الذي كان يحلم بالوصول إلى أردن أخضر عام 2000، لكونه حَمَلَ رؤية بيئية وتنموية منقطعة النظير، ولكن لم يسعفه تحقيقها بسبب شح الموارد المادية والمائية والطبيعية. كما حمل الملك عبدالله الثاني ذات الرؤية التي حملها الراحل الكبير، حيث أطلق على عام 2009 عام الزراعة، إيماناً منه بأهمية هذا القطاع، إلا أن الضائقة المالية أصبحت أكبر، والضغوط المائية والبيئية أشد وطأة، وهذا يجعل من هدف التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة أكثر صعوبة، فهذه ليست مسؤولية الحكومة لوحدها، ولا هي مسؤولية وزارة الزراعة أو وزارة البيئة، بل هي دون أدنى شك مسؤولية مجتمعية، ذات طابع عام، يستنهض هِمَمَ أبناء الوطن لتحقيقها. أما النظرة البشرية النرجسية نحو البيئة والغابة فلابد من تغييرها وتبديلها بأخرى مستدامة، ترى في بقاء الشجرة بقاء للإنسان.
ولابد من مبادرات كتلك التي حدثنا عنها آباؤنا خلال حياتهم كطلبة في المدارس، حيث كانوا يزرعون الشجرة ليس في عيد الشجرة فقط، بل ومن خلال مبادرات مستمرة طرحها رجالات البلد، كالراحل وصفي التل، الذي حمل روح المزارع معه أثناء تأديته لواجبه رئيساً للوزراء. ولماذا لا تتبني الجامعات مثلا إقرار ثلاثة ساعات دراسية إلزامية تطبيقية ولجميع التخصصات، تكون بمثابة ذات المسؤولية المجتمعية في طبيعتها، وخصوصا بعد تجميد الخدمة العسكرية، مما سيرفع بدوره من روح المواطنة والمسؤولية، فلا يتخرج طالب دون زراعة دنم أرض من الأشجار الحرجية، ويتبرع بالدم لبنك الدم ولو مرة في العام، ويشارك في تنظيف المدينة التي درس بها، فالمواطنة مشاركة.
إن النظرة غير الجادة نحو قطاع الزراعة عامة، وموضوع الحراج خاصة، جعلنا نصل إلى هذه الحالة التي لم تعد فيها وزارة الزراعة من الوزارات السيادية، بل في أغلب الأحيان شكل حقيبة وزارية تكميلية، أو حقيبة ترضية. وفي أحيان كثيرة نشاهد في مؤسساتها قادة لا تربطهم بالزراعة والحراج والبيئة سوى الكرسي والمسمى الوظيفي.
وعلى الرغم من الأهمية الاستراتيجية لزراعة أشجار الكينا، لابد لنا إلى جانب ذلك من التركيز على زراعة الأشجار الأصيلة للمنطقة أيضا، كالخروب والسدر والبطم والبلوط والسنديان والزعرور والزيزفون، والقائمة تطول، فهذه النباتات المحلية قادرة على التأقلم مع الظروف البيئية المحيطة، والتغيرات المناخية والبيئية المتوقعة، إلا أن للضرورة أحكام، ولا ضير من زراعة النباتات المدخلة، إذا كان ذلك على أساس علمي مدروس، يأخذ الأبعاد البيئية بعين الاعتبار، وبطريقة تحمي التنوع الحيوي الأصيل للمنطقة.