عندما اكتشف العلماء طبيعة مادة الوراثة DNA في الخمسينيات من القرن الماضي، اعتقدوا انهم توصلوا الى فهم سر الحياة، ومع مرور السنين تبين ان الأمور أكثر تعقيداً مما اعتقدوا. وعند توصلوا أيضاً الى رسم خريطة جينات الإنسان في بداية القرن الحالي، اعتقدوا انهم أصبحوا قادرين على فهم آليات عمل الجينات والتعامل معها بكل سهولة، لكن مع مرور السنين يتبين لهم أن ألغاز الحياة تزداد تعقيداً.
في الماضي كان الاعتقاد بوجود نحو 100 ? 120 ألف جين في كل خلية من خلايا جسم الانسان، تحتويها الـ46 كروموسوماً في كل خلية. وان كل جين تقريباً يحدد صفة واحدة.
وفيما بعد اصبحوا يتحدثون عن 40 ألف جين، لينخفض العدد بعد ذلك إلى نحو 28500 جين. وها هم الآن يتحدثون عن نحو 22 ألف جين، وعن أن كثير من صفات الإنسان هي نتاج تفاعل جينات عدة معاً، وتفاعل هذه الجينات مع البيئة.
وقد أطلق العلماء على عملية البرمجة البيئية للجينات الاسم epigenetics. ويقولوا إنه على المستوى الجزيئي، تتوقف الجينات عن العمل بإضافة مجموعة ميثيل إلى DNA نفسه، أو بلصق مجموعة من الجزيئات على المحتوى البروتيني للكروموسومات وتوضح هذه العملية كيف أن خلايا أجسامنا، التي تحتوي على المادة الوراثية DNA نفسها، تختلف فيها الجينات النشطة والخامدة، مما يجعل DNA الخلايا المتماثلة جينياً يعمل على إنتاج خلايا مختلفة عن بعضها فيما بعد، مثل اختلاف الخلايا العصبية عن خلايا الكبد أو الجلد أو العضلات.
ويقول العلماء ان عملية البرمجة البيئية هذه تفسر بعض الفروق بين الناس بما يعني ان خصائص جسم الإنسان هي نتاج تفاعل بين الجينات والبيئة علما بانه الى ما قبل عشر سنوات لم يكن يتوقع احد ان هذا النوع من البرمجة البيئية قابل للانتقال وراثيا إلى الأبناء.
العديد من الدراسات الحديثة اظهرت انه على المستوى الجزيئي لا تنتقل الجينات فقط الى الأبناء وإنما أيضاً التغيرات المرتبطة بترجمة هذه الجينات الى بروتينات وهكذا، فان العوامل البيئية التي تؤثر في الأبوين تنتقل أيضاً لتغير في صفات الأبناء، ومن ذلك مثلا ما اظهرته دراسة لعالم الجينات ماركوس بمبري على من يعيشون في مدينة اوفركالكس السويدية، من ان الأجداد الشرهون في تناول الطعام يكون لديهم احفاد عرضة للوفاة بالسكري بنسبة تفوق بأربعة إضعاف الآخرين.
وهكذا، فان علماء الجينات الذين يدرسون التطور البشري عبر التاريخ عليهم ليس فقط دراسة الجينات بل دراسة كيفية تنظيم عملها أي ترجمتها الى بروتينات. ولا يستبعد العلماء ظهور عوامل اخرى اكثر تعقيدا في المستقبل، ويشيرون في هذا الصدد الى ما اكتشفته بارديس سابيتي من معهد برود في بوسطن، من ان نصف المواقع الجينية النشطة في الجينوم البشري توجد في الجينات التي نعرفها في حين يوجد النصف الآخر في تلك المناطق الواقعة بين الجينات والتي يُطلق عليها العلماء الاسم juck DNA وهكذا فان مجرد معرفة عمل هذه المواقع ولماذا هي هنا سيحتاج إلى جهود كبيرة من العلماء ولسنين طويلة.