احمـد عبد الرحيم الحـورانـي - قال تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. صدق الله العظيم، وجاء في حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد أخرجه الترمذي، وموت الغربة شهادة، وذلك لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: موت غربة شهادة أخرجه ابن ماجة، وقال الحافظ: (اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيدا، فقيل لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة، وقيل: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة شهداء الأردن الخمسة:- - العقيد الركن عبيدالله إبراهيم حميدان المواجدة.
- المقدم الركن جهاد سمرين حسين مهيرات.
- رائد دفاع مدني إبراهيم محمد رزق الشرمان.
- ملازم أول بلال احمد راشد أبو حجيلة .
- وكيل أول عامر محمود عبدالله الرواشده.
الذين قضوا في هاييتي أثناء قيامهم بمهمة رسمية، وفاضت أرواحهم إلى بارئهم حيث الرجوع الأخير، لتلقى هناك وعدا ربانيا صادقا وتأخذ مكانها بين الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، هم الخالدون في ضمير الوطن، والباقون في وجدانه أبدا، حيث لن تغيب شمسهم عن سماء الأردن النابض بالإسلام والعروبة، والمضرجة أرضه بدماء شهدائه البررة.
هؤلاء الأردنيون لن نجد ما نقول فيهم، ولن نصل إلى مستوى قيمتهم وكرامتهم العليا التي أعدت لهم، هؤلاء الأحياء فينا، فارقوا الحياة ورحلوا بعيدا عن عيوننا بعد أن استوطنوا قلوبنا، مضوا جميعا على درب واحد وعشرون شهيدا سبقوهم من إخوانهم الأردنيين الذي غادروا الأرض وفارقوا الأهل والأحبة ليسهموا مع قوات دولية وعربية أخرى، في إعادة الأمن والهدوء والاستقرار في أجزاء من العالم كان قدرها أنها لم تنعم بالسلام ولم تتذوق طعمه. ليؤكدوا بالدليل القاطع مجددا أن الأردن لم يدع يوما إلا ولبى النداء، انتصارا للحق العربي حينا، ودفاعا عن كل شعب شقيق وإنسان في كل مكان فوق الكرة الأرضية الشاسعة، لان هذه رسالته وهذا هو فحواها وتلكم هي مضامينها.
خمسة كواكب أردنية، مضوا جميعا.. وتركوا أهلهم وإيانا معهم في عذابات الفراق.. نذوق لوعة فراق أحبة عشنا معهم على أمل البقاء، إلا أن الشهادة كانت السباقة لرحيلهم عنا فهنيئا لهم.والعزاء لذويهم، ولئن كانت أرواحهم ترفرف في جنات الخلد راضية مرضية، فان حضورهم نابض بالحب والحياة، ومن التناغم بين الروح المرفرفة والحضور الخافق سنسمع جميعا كل يوم لحنا عبقريا رائعا عنوانه الإيمان والحب والعطاء.
حين هممت بالكتابة عما جال في خاطري ابتداء من السمع بمشيئة الله التي أبت إلا أن تكتب لهم الشهادة، حتى وصول جثامينهم الطاهرة ومواراتها الثرى، كانت ثمة صور حية جالت في خاطري وفي نفسي، فحرت أأكتب عن الشهادة وفضائلها، أم اكتب عن الموت بالغربة الذي يزيد النار ضراوة وقسوة، أم اكتب عن هول المفاجأة التي سقطت على ذويهم كالصاعقة، أم استحضر صورة الطفل الذي رزق به الرائد إبراهيم الشرمان ولم يره، بل كان الحدس اقرب إليه حين أوصى بأخيه قبل رحيله بقوله ورجائه عليك بأبنائي، أم اصف بكلماتي القاصرة مشهد الطائرة التي تحطمت فيها أجسادهم وهي تنهال أرضا، أم اعبر بقلمي الأضعف عن لحظات ودقائق باتت خالدة في ذات ونفس كل أردني لحظة وصول الجثامين ملفوفة بالعلم الأردني وسط نظرات أهاليهم وذويهم.
بعد ذلك رحت اتساءل كما تساءل معي الأردنيون جميعا، عن القدر الإلهي المكتوب لهذا الوطن الأشم، أجاء استشهاد هؤلاء الخمسة الأشاوس من مناطق جغرافية أردنية امتدت من جنوب المملكة إلى شمالها، فمن الطفيلة إلى الكرك، فمادبا، مرورا بالزرقاء وانتهاء بإربد، هكذا، بل أن هناك من المعاني المستفيضة والعبر الكبيرة الدالة على الأردن قيادة وحضارة وتاريخا ووجودا.
ولئن تعددت الصور وتزاحمت في نفسي، لم أجد بدا وعبر صفحات رأي الوطن الأولى، إلا أن أقف على بعضها، فالتأثر اللافت قبل الحضور السامي لجلالة الملك عبد الله الثاني وجلالة الملكة رانيا، لم يكن بحاجة إلى ترجمان، وكان مبعثا على الفخر والاعتزاز بما يقوم به جلالة الملك وهو القائد الأعلى لقواتنا المسلحة الأردنية، والذي آثر الحضور لاستقبال هذه الكوكبة من فرسان جيشنا العربي المصطفوي، هذا الحضور العفوي لجلالتيهما وهما على رأس أسرتنا الأردنية الواحدة، جاء من قائد عربي هاشمي مسلم، يحرص على التواجد بين أبناء شعبه في سرائهم وضرائهم، يقاسمهم الهم ويشاركهم الفرح والألم، في مشهد بات الأكثر حضورا وتواجدا على ساحتنا الأردنية منذ تسلم جلالته زمام أمر الحكم في المملكة الأردنية الهاشمية.وهو القائد الصادق الذي قال مخاطبا شعبه الأبي في أربعينية الراحل الكبير - الحسين بن طلال ? ولم يكن يوازي حزني على الحسين في تلك الأيام الصعبة إلا شعوري بالاعتزاز بكم وبوقفتكم الحضارية المشرفة التي لن أنساها ما حييت. وإنني إذا أعرب لكل واحد منكم في كل مكان من الأردن العزيز باسمي وباسم الأسرة الهاشمية عن عميق الشكر والعرفان لأمد يدي مصافحا أياديكم وأقول لكم لقد كانت وقفتكم خير عزاء لنا فجزاكم الله عنا كل الخير.
في الأردن، تتعدد الصور وتزداد يوما بعد يوم، تلكم أن المسألة لدينا تختلف عما هي عليه لدى غيرنا، وإلا كيف لنا أن نفسر انحناءة الملك على ركبيتة لتقبيل نجل احد الشهداء والمسح على جبينه للتخفيف من وجعه وحزنه على فقدان والده. فهذا القائد العظيم بتواضعه وقربه من الناس هو القائد الأعلى الذي غرس فينا و فيهم روح التضحية وحب الوطن والتمسك بمبادئ الدين ومقومات الشخصية العربية الإسلامية والإصرار على المضي قدما لحماية مقدرات الأمة وصيانة استقلالها وكرامة أبنائها وهؤلاء هم رجالات الأردن وهذه هي قيمهم العليا حب الوطن والدفاع عنه والمحافظة عليه وبناؤه، حب فلسطين وعشق القدس الشريف، التضحية بالنفس كلما اشتد الخطب وادلهم الأمر وتصاعدت وتيرة المعتدي .
إن الأرض الأردنية التي سار على أديمها الأطهار من الصحابة، جعفر بن أبي طالب، وأبي عبيدة، وشرحبيل بن حسنه، ومعاذ بن جبل، وان هذا الوطن الذي لامس أقدام محمد عليه السلام، ثم ورث الثورة العربية الكبرى ومبادئها الجليلة في الوحدة والحرية والاستقلال لكل العرب، عاش على ساحة عزيزة من ساحات النضال القومي منذ رفرفت في سمائه راية العز والمجد، تسمو وترتفع بسواعد البناة الأوائل بقيادة عبد الله بن الحسين وهو قائد من قادة الثورة العربية الكبرى ومؤسس الأردن الحديث، وقد ظلت المملكة الأردنية بقيادتها الهاشمية ثابتة على عهدها دون تغيير في مبادئها أو تبديل في مواقفها القومية، وكان على امتداد نضال الشعب الفلسطيني وثوراته المتواصلة، يشاركهم تبعات النضال ويشترك معهم في سرائهم وضرائهم.والأردن بذلك إنما كان يصدر بكل الصدق والإخلاص عن رسالة قومية آمن بها ولم يساوم عليها منذ أن بشر بها الحسين بن علي طيب الله ثراه.ويشهد التاريخ أن لكل بيت أردني شهيدا قد افتدى فلسطين وروى بدمه ثراها الطهور منذ حمل شعبها الأبي راية الدفاع عن أرضه ووجوده. ولا غرابة في ذلك فالأردن وهو الحصن المتقدم من ارض العرب كان قدره ان يكون خط الدفاع الأول وعمق العرب ودرعهم في مواجهة الشر الذي ما كان منهم يوما ببعيد.
ولئن كان الأردن قد عمل خلال السنوات الماضية بجهد وإخلاص ونشاط من اجل وحدة العرب وإعلاء كلمتهم، فهو اليوم وبقيادة عبد الله الثاني، ما زال باقيا على عهده، ما زالت فلسطين تستأثر على اهتماماته وتتصدر أولوياته، وان جيشه العربي بتوجيهات القائد الأعلى، قد عقد العزم على الحفاظ على سمعة هذا الجيش، فتجددت بهمته الروح العربية الأصيلة التي حملها جيشنا العربي، وأثبتت مؤسستنا العسكرية الأردنية أنها مؤسسة رسالة عليها تجديد نهضة الأمة وحمايتها وتدعيم حقوقها، وهو كذلك برعاية القائد أبي الحسين جيش المستقبل المنشود.
ان شهداءنا الخمسة الذين ارتوت الأرض من دمائهم ، هم الحاضرون الخالدون في قلب سيدنا وعقله، وفي وجدانه تسكن صورهم لأنهم الأبطال ذوو البأس والصدق والاقدام 00 فالرائحة الزكية للشهداء يريدها جلالته على الدوام باقية فواحة يتنسم عبقها ويشتم عبيرها السائرون على ارض الكرامة وفي شوارع اربد ومعان والكرك والمفرق والسلط والطفيلة ليستذكرون بالمجد والأنفة مواقفهم الرجولية التي تجسدت فيها أسمى آيات الولاء للوطن والأمة.
في مناسبة وطنية عزيزة قال جلالة الملك عبد الله الثاني مقولة شهيرة هي ( أن الشهداء هم أكرم الناس ) إنما تنطوي على رسالة هامة ودلالات بالغة الدقة وغزيرة العبر وتعني أن تاريخ الشهداء وذكراهم ينبغي أن تبقى ماثلة في نفوس أبناء هذا الوطن وعليهم إحياؤه بصورة تبعث فيض ذكريات الماضي وتتمثل يقظة الحاضر التي تحمل فكر الوطن وتتمسك بترابه من اجل عزته وكبريائه بمنتهى الجدية والالتزام وضمن إطار نوعي يسهم في تطوير وصياغة الأردن الحديث.
الشهداء في نظر القائد الأعلى هم أولئك الذين يجب أن يكونوا لنا القدوة الحسنة والصورة البطولية الرائعة التي تطالعنا صبيحة كل يوم لنأخذ العبرة ونتشرب روح مجاهدتهم ونستوعب الدرس ونجدد العزم على التمسك بمبادئ الرسالة السامية للأردن التي حملها لنفسه ولامته وكان احد أهم ركائز ودعامات الوطن العربي وضمانة من ضمانات وجوده وتعزيز قدرته على الحياة ومناصرة الحقوق العربية مهما غلا الثمن وارتفع مستندا في ذلك إلى شرعية الحكم ومبادئ الثورة العربية الكبرى.
أيها التاريخ، سجل، ويا أيها القلم اكتب بمدادك الزاخر أسماء عبيد الله، جهاد، إبراهيم، بلال، وعامر رحمهم الله واترك متسعا للشهداء القادمين فهم كثر ولان هذا هو الأردن.
مركز الدراسات والاستشارات / الجامعة الهاشمية