هزاع البراري - كانت المنطقة محط أطماع وصراع نفوذ ، فالتركة العثمانية ثقيلة وهشة في الوقت ذاته ، ولم تحظ الدولة العربية الناشئة بالدعم، بل لم تنل القبول ، فمؤامرة التقسيم كانت قد أبرمت بليل حالك السواد ، وآن للقوى الكبرى أن تأخذ غنائمها ، حيث عاثت بريطانيا وفرنسا تجزئة لأوصال الوطن الواحد، تحت ستار الوصاية والانتداب، وما سبق ذلك من عهد كان خنجراً في خاصرة الجسم العربي، وهو ما سمي بوعد بلفور ، وما نتج عن ذلك من رفض أحرار العرب واستنكارهم، فحملوا سلاحاً مما توفر وهبّوا للجهاد.
هكذا كانت حال البلاد والعباد ، أرض تسلب وشعب يناضل بالروح والمال والولد ، ولم تكن شرقي الأردن ببعيدة عن هذا كله ، بل كانت تحمل على هامات رجالها الأحرار، أثقال وطن عربي كبير ، وكانت الأردن ما تزال أرض رباط ومولد فرسان ، ففي العام 1868م ولد الشيخ المجاهد كايد مفلح العبيدات في منطقة كفر سوم ، ونشأ وسط عائلة كبيرة ، لكنه نبغ مبكرا وكان مجتهدا في الكتّاب، الذي تعلم فيه القراءة والكتابة ، وحفظ القرآن الكريم غيباً ، وقد عرف عنه جمال خطه في الكتابة ، وقد توضحت قدراته القيادية وهو في بداية عقده الثالث ، حيث تواصل مع عدد كبير من شيوخ ورجالات المنطقة، الممتدة من فلسطين إلى الجولان ودرعا، بالإضافة إلى شرق الأردن ، وتمكن من خلال هذه الصلات، ومن خلال بعض ما قرأ عن سير الفرسان والقيادة الأوائل، من التعرف على الأوضاع العامة، وما يحاك للأمة من دسائس ومؤامرات، هدفت إلى تقسيم المنطقة العربية وتنفيذ المشاريع الغربية فيها ، وهو ما فجر الحس الوطني، ورفع مستوى الاستعداد للجهاد وطلب الشهادة إلى أعلى درجاته ، وقد تأثر الشيخ كايد بالشخصيات التاريخية والقادة العظام أمثال خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي (د.محمد العناقرة).
لم يكن كايد العبيدات الأكبر سناً بين إخوته ، لكن سماته الشخصية، وثقافته الجيدة في ذلك العصر، الذي غلبت فيه الأمية، جعلته يتسيد عشيرته ومنطقة الكفارات بمباركة من أشقائه، وليكون بذلك زعيم منطقة، كبيرة ضمت قرى وبلدات عديدة، وبعد ذلك أصبح عضواً في المجلس القضائي ، وبذلك أضحى في خضم الأحداث، وعلى مقربة من مشاكل الناس وهواجسهم ، وقد تأكد لديه ولدى معاصريه، أن قدسية التراب تحفظ كرامة الوطن والشعب ، وقد قاده وعيه الفطري، إلى أن فلسطين تمثل جوهر هذه القدسية ، ولذا تتعرض لمحاولات استلاب، أكدتها تصرفات البريطانيين، عندما أحكموا قبضتهم عليها ، وبالتالي سمحوا بالهجرة اليهودية وإقامة المستوطنات ، في حين ضيقوا الخناق على العرب، وحرموهم من تجهيز أنفسهم للمواجهة القادمة، لذا قام الشيخ كايد العبيدات ورجالات المنطقة بالتواصل مع المناضلين في فلسطين، في سبيل تقديم العون للمقاتلين في زمن عزّ فيه السلاح والمال.
عند قيام المملكة في سوريا، وتوج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً ، بدت العلاقة بين الشيخ والملك فيصل جيدة ، حتى أن الملك أوصى كايد العبيدات بأن منطقة عجلون أمانة في عنقه ، وهذا دلالة على المحبة والثقة اللتين كانتا قائمتين بين الرجلين ، وهي اعتراف بأهميته وعلو شأنه في المنطقة ، غير أن توجهات الشيخ كايد القومية، جعلته فاعلاً في محيطه العربي ، فلقد حشد عدداً من الرجال، ودفع بهم للمشاركة في الثورة التي اندلعت في الجولان ، حيث كان ينسق مواقفه الثورية مع علي خلقي الشرايري واحمد مريود وغيرهم ، وهذا يؤكد فعالية النضال المفتوح، الذي ميز الأردن كمنطقة في قلب العالم العربي ، والمنفتح على كل الأحداث ، فكانت الأرض الأردنية ملجأً لأحرار العرب ومنطلقاً للثوار وطلاب الحرية ، وقد تولد لدى الشيخ كايد إدراك ينم عن وعي حقيقي، بضرورة التصدي لمشروع تقسيم بلاد الشام، الذي تقوده فرنسا وبريطانيا حتى لو تطلب ذلك بذل المال والأرواح.
وكان من نتيجة وعد بلفور الذي رفضه العرب أن دعي لمؤتمر عقد في عجلون، حضره زعماء وشيوخ الأردن ، وتمخض عنه حتمية المواجهة ، وتمكن الشيخ كايد من استثارة الناس وتأمين الحشود ، وقام بتشكيل قوة من شرق الأردن، بهدف مهاجمة الانجليز في فلسطين، متكاتفين مع المناضلين من أبناء فلسطين ، ووصلوا إلى منطقة الثعالب ، حيث دارت مواجهات حاسمة في قرية سمخ ، ويقال أنهم اسقطوا طائرة بريطانية ، وان بريطانيا أرادت حسم المعركة لصالحها بأسرع وقت ، وتم قصفهم بالطائرات واستشهد نتيجة لشراسة المواجهات الشيخ المناضل كايد العبيدات، كما رافقه في الشهادة عدد من المجاهدين من شرق الأردن ، وقد نقل جثمانه إلى بلدته، واعتبر أول شهداء الأردن على أرض فلسطين ، وشكّل استشهاده حادثة مؤلمة ومحزنة ، ولكنها تعد محطة فداء تاج فخار وإكليل عز تزدهي به الأرض الأردنية ، فأصبحت الخسارة التي شعر بها الشعب الواحد على طرفي النهر المقدس، أنموذجا للبطولة والفداء والوحدة، وكانت البوابة الكبرى التي عبرت من خلالها قوافل الشهداء يروون بدمائهم طهر الأرض وكرامة الأمة،وبذك دخل الأردن في مرحلة مبكرة في معركة الصراع العربي الأسرائيلي الطويل، وتنبه شعبيا ورسميا لخطورة تطورات ما يجري في فلسطين ، حتى قبل إنكشاف المستور بسنوات.
hbarari45@hotmail .com