في ظل التحديات الصحية المتزايدة التي تواجه الدول العربية، تبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز التعاون الإقليمي وتوحيد الجهود لمواجهة الأوبئة والأمراض المتفشية، إضافةً إلى مكافحة الأمراض غير السارية التي تشكل أكثر من 70% من الوفيات عالميًا وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. ورغم وجود «مجلس وزراء الصحة العرب» التابع لجامعة الدول العربية منذ عام 1975، إلا أن غياب هيئة تنفيذية متخصصة تُعنى بتطبيق السياسات الصحية يحدّ من فعاليته في التعامل مع الأزمات الصحية المتسارعة التي تحتاج الى حلول تطبيقية.
تجارب دولية وإقليمية عديدة أثبتت فعالية إنشاء مراكز تنفيذية للصحة العامة، حيث أنشأ الاتحاد الأوروبي «المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها» (ECDC) عام 2004، والذي لعب دورًا حيويًا في تنسيق الاستجابات للأوبئة وتبادل المعلومات بين الدول الأعضاء، لا سيما خلال جائحة كوفيد-19.
كما أطلق الاتحاد الأفريقي عام 2016 «المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها» لتعزيز القدرات الصحية في القارة ومكافحة التحديات الصحية العابرة للحدود. في السياق الخليجي، شهد عام 2017 تأسيس «المركز الخليجي للوقاية من الأمراض ومكافحتها»، الذي يعمل على دعم تنفيذ السياسات الصحية المشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي، وتنسيق الاستجابات للأوبئة، وتعزيز البحث العلمي، ومكافحة مقاومة المضادات الحيوية.
هذه التجارب عززت قدرات الدول والمناطق، فبدلاً من الاعتماد المستمر على الدعم الخارجي، أصبحت تعتمد على الكفاءات الوطنية والإقليمية، مما أسهم في تعزيز التعاون والتفاهم المشترك، وعززت من موقعها التفاوضي على الساحة الدولية.
رغم هذه الجهود، لا يزال العالم العربي يفتقر إلى جهاز تنفيذي موحد يعنى بتطبيق السياسات والخطط الصحية على المستوى الإقليمي.
إن إنشاء «الهيئة العربية لمكافحة الأمراض والوقاية منها» او مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها العربية يعدّ خطوة ضرورية لسد هذه الفجوة وتعزيز القدرات العربية في مواجهة التحديات الصحية المشتركة. من شأن هذا المركز أن يوفر منصة لتبادل البيانات الصحية والمعلومات الوبائية بين الدول الأعضاء، مما يعزز القدرة على الاستجابة السريعة المشتركة للأوبئة، والامراض التي لا تعرف الحدود، ويحدّ من انتشار الظواهر غير الصحية ذات الخطر المشترك مثل التدخين وتعاطي المخدرات، ويشجع على تطوير البحوث العلمية التي تشكل أساسًا للسياسات ?لصحية المستدامة. كما سيسهم في توجيه الاستثمارات نحو تطوير البنية التحتية الصحية وتدريب الكوادر الطبية، مما يعزز من جاهزية الدول العربية لمواجهة الأزمات الصحية المستقبلية. وخاصة ما تشهده المنطقة من عدم استقرار وحروب.
رغم أهمية هذه الخطوة، إلا أن إنشاء هكذا كيان يواجه عدة تحديات، أبرزها التباين الكبير في الأنظمة الصحية بين الدول العربية وطرق تمويلها، مما قد يعيق توحيد السياسات والإجراءات الصحية، إضافة إلى توفير التمويل المستدام، إذ يتطلب مثل هذا المجلس دعمًا ماليًا مستقرًا لضمان استمراريته وكفاءته. كما أن التوافق السياسي الذي لا نستطيع ان نغفل عنه بين الدول الأعضاء يعد عاملاً حاسمًا، حيث يعتمد نجاح أي كيان مشترك على الالتزام بتطبيق القرارات الجماعية وعدم تسييس القضايا الصحية.
مع تنامي الحاجة إلى مركز صحي عربي فعّال يعزز التنسيق بين الدول وازدياد الايمان بهذه الفكرة، يبرز التساؤل حول الشكل الأمثل لهذا التعاون، وآلياته، والتحديات التي قد تعترضه. ومن أبرز القضايا المطروحة هو ضرورة دراسة الحالات والتجارب السابقة واسباب اخفاقها بمهنية، وكذلك الدراسة المستفيضة القانونية لتجنب التعقيدات الإدارية والتشريعية التي تصاحب إنشاء كيان تنفيذي جديد على مستوى الدول العربية. بدلًا من ذلك، قد يكون من الأفضل اعتماد مسمى أكثر توافقًا مع الأطر العربية القائمة والتناغم معها، مثل «الهيئة العربية للصحة?العامة»، أو «المركز العربي للصحة العامة» بحيث تدريجيا يصبح مركزاً تنفيذياً متكاملاً.
ولا نغفل وجود عدد من الكيانات الصحية العربية، مثل مجلس وزراء الصحة العرب، وبعض المراكز الوطنية التي تقوم بجزء من العمل الاقليمي المتخصص، لكن فعاليتها تظل محل تساؤل في ظل انشاء هكذا كيان جديد. لذا، لا بد من تحديد طبيعة العلاقة بين الكيان المقترح وتلك الجهات، وهل سيكون بديلاً عن بعضها ومكملًا لبعضها الآخر؟ لدينا نموذج «مركز مكافحة الأمراض الخليجي»، والي لا يزال يواجه بعض الصعوبات التشغيلية والتمويلية. فكيف سيكون الحال عند توسيع النموذج ليشمل جميع الدول العربية؟ هذا الوضوح ضروري لتجنب التداخل في الصلاحيات وضم?ن وجود دور فعّال لكل جهة في المنظومة الصحية العربية. التجارب السابقة أثبتت أن استدامة المشاريع العربية تعتمد بشكل كبير على الالتزام المالي للدول الأعضاء، وعدم تسييس الامور وهو ما لا يكون مضمونًا دائمًا.
ربما يكون الحل الأمثل هو تبني نهج تدريجي، يبدأ بمشروع ريادي يضم عددًا محدودًا من الدول العربية كنموذج تجريبي، ثم يتم توسيعه تدريجيًا مع مرور الوقت. هذا النهج يسمح باختبار فعالية التعاون على نطاق ضيق قبل تعميمه، كما يتيح فرصة لتقييم التحديات وإيجاد حلول عملية لها. الحديث عن إنشاء هذا الكيان يجب ألا يقتصر على النطاق الرسمي فقط، بل يجب أن يشمل جميع الجهات الفاعلة، من منظمات المجتمع المدني إلى المؤسسات البحثية والخبراء في المجال الصحي.
فتح باب النقاش حول هذا الموضوع، وإشراك جميع الأطراف المعنية، هو الخطوة الأولى نحو بناء شراكة مستدامة تضع الصحة العامة في مقدمة الأولويات العربية. إن تحقيق التكامل الصحي العربي ليس بالمهمة السهلة، لكنه ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية والآليات المناسبة لضمان نجاحه. الأمور معقدة وكلنا نعرف ذلك ولكن من حقنا وواجبنا ايجاد السبل والطرق وتذليل المعوقات بهدف تعزيز صحة المجتمعات العربية؟ الأيام كفيلة بالإجابة ولنا اسوة في المراكز في المناطق الاخرى التي وحدتها الأهداف ولم تفرقها الاختلافات.