في هذا العالم المتعَب، حين يُضيء وجه إنساني صادق، نشعر بأن الحياة لا تزال قادرة على أن تُنجب النبلاء. واليوم، وقد غاب عنّا البابا فرنسيس، تنطوي صفحة من الصفحات القليلة البيضاء في زمن كثير الرماد. لقد رحل البابا فرنسيس، وترك خلفه إرثًا من الرحمة لا يُنسى، وصوتًا داعيًا للوئام لا يخفت، ومسيرةً ناصعة كُتبت بأنفاس المظلومين، ودموع المهاجرين، وأنين الفقراء.
أنعي رجلاً استثنائياً..
نم قرير العين يا قداسة البابا، فإنك لم تكن زعيمًا دينيًا فحسب، بل كنت بوصلة أخلاقية في زمنٍ تاهت فيه الضمائر، وملاذًا للإنسانية في زمن القسوة والجدران. كم وقفت على جراح المنسيين، وكم أحييت فيهم الرجاء بكلمة، أو نظرة، أو صلاة. كان جسدك بين القصور الفاتيكانية، لكن روحك كانت تسير في أزقة البؤساء، في مخيمات اللاجئين، وفي مستشفيات الأوجاع. قد لا يجمع الناس على رجل في هذا العصر الممزق، لكنك كنت الاستثناء. ففي لحظةٍ نادرة اتفقت القلوب المسيحية والمسلمة، وكل قلوب النبلاء، على محبتك، لأنك كنت تدعو لما يجمع، وتسامح فيما يفرق، وترى في الدين جسرًا، لا سورًا.
البابا فرنسيس رأس الكنيسة وروح سامية
لم يكن البابا فرنسيس مجرد رأسٍ للكنيسة الكاثوليكية، بل كان روحًا سامية تمشي على الأرض، تتعثر أحيانًا كبقية البشر، لكنها دومًا كانت تتّجه إلى جهة الرحمة. نعى العالم رجلًا لم يكن أقرب إلى السلطة منه إلى البساطة. عاش في بيت متواضع بدل القصور، لبس الحذاء الأسود البسيط بدل الأحذية الحمراء، وكان أول من يمد يده ليصافح المهمّشين قبل الزعماء. كان البابا فرنسيس رجلًا يمشي إلى الضفة الأخرى، الضفة التي تجمع لا تفرّق. في زمن طغت فيه الأصوات الصارخة، خرج صوته هادئًا، لكنه نافذٌ، يطرق القلب قبل الأذن. ومنذ لحظاته الأولى على كرسي الحبرية، أعلن موقفه: هذا العالم يحتاج إلى المحبة أكثر من أي وقت مضى.
لقد مدّ يده إلى المسلمين، لا من باب المجاملة، بل من نبع الإيمان العميق بأن الأديان ما خُلقت لتتصارع، بل لتتعانق. نزل في أحد الأحياء المضطربة في إفريقيا الوسطى، ووقف في مسجدٍ وسط المصلين، لا ليُخطب، بل ليقول ببساطة: «نحن إخوة». هذه الكلمة، التي لا تُدرَّس في كتب اللاهوت، ولا تُستخرج من معاجم الفقه، كانت أعظم من آلاف النصوص، لأنها خرجت من قلبٍ يعي تمامًا ما تعنيه الأخوّة في زمن الفرقة.
الوثيقة التاريخية
وفي أبوظبي، حين اجتمع بشيخ الأزهر، وقع وثيقة «الأخوّة الإنسانية». لم يكن اللقاء احتفاليًا ولا صورة مجاملة، بل لحظة نادرة وقف فيها رمزان من رموز الروح يقولان: كفى. كفى للحروب باسم الله. كفى للتعصّب باسم الإيمان. كفى لتشويه صورة الأديان في مرآة الدم. ما قاله فرنسيس عن الإسلام لم يكن مُلفّقًا، بل منصفًا. قال إن الإسلام دين سلام، وإن على الجميع أن يفرقوا بين النص المقدس وسلوك بعض أتباعه. وهي كلمات تلقّاها المسلمون، لا على أنها ثناء، بل اعتراف بعدل، واحترام تُقابله المحبة.
معارك الأخلاق بين الفقر والعدالة والبيئة
لكن مواقف البابا فرنسيس لم تكن فقط على صعيد الأديان، بل شملت الإنسان في جوهره. لطالما وقف مع الفقراء، وجعل قضية العدالة الاجتماعية من صلب لاهوته العملي. تحدّث عن خطر الرأسمالية المتوحشة، وعن ضرورة إعادة توزيع الثروات، وعن حقوق العمّال، والمهاجرين، والمشردين. في واحدة من أعظم إشارات التواضع في العصر الحديث، غسل قدمي مهاجرين مسلمين في أحد الطقوس الرمضانية للكنيسة. تخيّلوا زعيمًا دينيًا بهذه المكانة، يركع أمام رجلٍ لاجئ، ويغسل قدمه. لم تكن مجرّد طقسٍ مسيحي، بل كانت صلاة صامتة تقول لنا جميعًا: الإنسان أولًا.
حتى البيئة، لم تغب عن وجدانه. أصدر وثيقة كاملة تحث البشرية على حماية كوكب الأرض، معتبرًا أن تدمير البيئة هو تدمير للإنسان نفسه. إنه صوت وجد فيه المسلمون صدىً لقوله تعالى: «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ».
لا يُمحى إرثه
رحل البابا فرنسيس، لكن شيئًا منه باقٍ. لا نتحدث هنا عن تماثيل ولا صور، بل عن أثر في القلوب. لقد علّم العالم أن القداسة ليست زيًّا أبيض، بل موقف. وأن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بعدد الصلوات، بل بمدى رحمتك للناس. كان بإمكانه أن ينعزل في الفاتيكان، محاطًا بالذهب والتراتيل، لكنه اختار النزول إلى الأرض، حيث تعب الأرواح، وأوجاع اللاجئين، ودموع الأمهات، وأطفال الشوارع، وآهات السجناء. وهناك، ترك بصمته، كمن يزرع وردةً في صحراء. واليوم، بعد أن غادر جسده هذا العالم، نقف على أعتاب الحزن، لا فقط لأننا فقدنا رجل دين، بل لأننا فقدنا ضميرًا حيًا في زمن الصمت الكبير.
رحمك الله البابا فرنسيس، وأجزل لك المثوبة بما قدمته من خير للناس. لقد تركت للعالم كلمات لا تُنسى، وصورًا لن تُمحى، ومواقف ستبقى نبراسًا لمن يأتي بعدك. وإذا كان الموت قد غيّب جسدك، فإن روحك باقية في كل ابتسامة زرعتها، وفي كل يد أمسكت بها، وفي كل قلب أحبك ولو من بعيد.
اللهم اجعل ذكراه نهرًا من نور، يجري بين ضفتي المسلمين والمسيحيين، يسقي شجرة الإنسانية حتى تظل خضراء رغم العواصف. سلامٌ عليه في الأولين والآخرين، وفي القلوب التي عرفته ولم تره، وأحبّته من بعيد.