للنهضة رافعتان، لا رافعة واحدة: العلم والتكنولوجيا من جانب، والإنسانيات والعلوم الاجتماعية من جانب آخر.
عند البعض تصوّر أنّ الدول تنهض بالعلم والتكنولوجيا وحدهما؛ وهذا تصور خاطئ. وخاطئ كذلك تصور أن الدول تنهض بالإنسانيات والاجتماعيات وحدهما.
المطلوب تركيزٌ على الرافعتين.
ماذا يعني ذلك عملياً؟
يعني أن نهتمّ في التعليم المدرسي بالبُعدين معاً بنفس القدر. مرحلة المدرسة هي مرحلة تأسيسية، ومن هنا ينبغي 'تأسيس' الطلبة في الحقول الأساسية التي تتشكل منها الرافعتان، دون الإعلاء من شأن واحدة على حساب الأخرى.
الإشكال المعروف في نظامنا التعليمي أننا، قصداً أو عن غير قصد، خلقنا الانطباع، الذي أصبح قناعة عند الكثيرين، أن العلوم والتكنولوجيا أهم من الإنسانيات والاجتماعيات.
وهذا أمرٌ غير سليم، لأنه همّش الأخيرة، وبالغ في أهمية الأولى. إضافةً بالطبع إلى حرمان الطلبة من فرصة التعمق في حقول الرافعتين، مما جعل المنظومة المعرفية والمهارية التي يحملها الطلبة في انتقالهم من المدرسة إلى الجامعة أو المعهد أو الحياة منقوصة.
لا بل لقد خلق هذا الفصل أُمّيّة علمية عند البعض، وأميّة ثقافية اجتماعية عند آخرين.
وكما هو معروف، فإن منظومة التعليم العالي تعاني من ذات التحيّز أو النقص، لأن الطلبة المنخرطين في الإنسانيات والاجتماعيات ممنوعون من الالتحاق بالتخصصات العلمية، مثلماً أن معظم طلبة العلوم والتكنولوجيا لا يحبذون الالتحاق بالحقول الإنسانية والاجتماعية لأنها 'اقل' أهمية في نظرهم، مما يحرمهم من نِعَمِها.
والحقيقة الثابتة أن حقول العلوم والتكنولوجيا تُزوّد الطلبة بمعارف ومهارات تختلف في جلّها عن تلك المعارف والمهارات التي يحصل عليها الطلبة من الحقول الإنسانية والاجتماعية، وإن المعارف والمهارات المتأتية من الرافعتين هي على نفس القدر من الأهمية للمجتمع وأنها مُكمّلة لبعضها.
بالطبع إذا حققنا العدالة على المستوى المدرسي، بإلغاء الفصل أو الميل التخصصي المبكّر هذا، فيمكن للطالب أن يتخصص في الحقل أو الحقول التي يميل إليها في التعليم العالي، إذ يكون قد ألمّ بالحقول الأساسية في الرافعتين وشكلّ ميلاً أو اهتماماً بحقل أو أكثر.
نقول أيضاً في سياق التعليم على مستوى البكالوريوس، والذي هو مرحلة وسطى بين التعليم المدرسي والدراسات العليا: جميلٌ أن يتخصص الطالب في حقل يجد نفسه فيه لأنّ الكثير من الإبداع ينتج عن التعمق في حقل بعينه؛ لكن جميل أن تتاح للطلبة فرصة التخصص في أكثر من حقل، لأن الكثير من الإبداع يتحقق عند تلاقي الحقول وتلاقحها.
وعملياً، فالخيار الأخير يمكن أن يتحقق من خلال ما يُعرف بالتخصصات الرئيسة والفرعية، لكنه يتحقق على نحو أوسع وأشمل عندما نتبنى بشكل جاد ومحترف موضوع الدراسات البينية، التي تُوفّر للطالب فرصة التخصص في عدة حقول معاً.
ونُذكّر أنّ المفكرين والعلماء المبدعين في تاريخ البشرية، أرسطو والكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وبيكون وديكارت وهوبز ونيوتن وغيرهم، لم يعنوا بحقل معرفي واحد بل بعدة حقول معاً.
مهمّ جداً، إذاً، معالجة الإشكالات البنيوية في تعليمنا المدرسي والعالي، لنُمكّن طلبتنا في المسار الأكاديمي برافعتيه من تحقيق مبدأ اكتمال المعرفة والتميز والابتكار والإبداع.
وبعكس ذلك نخسر الكثير، ويسبقنا الآخرون.