في وقت تعيش فيه المنطقة العربية تحديات صحية وبيئية عميقة، من تزايد مستمر للأمراض المزمنة، وتأثيرات التغير المناخي، وتزايد الضغوط على الأنظمة الصحية، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد خيار رفاهية بل ضرورة ملحة لتحسين الواقع الصحي الإقليمي، كأداة تكنولوجيا قد تفتح آفاقًا جديدة للوقاية والتشخيص والعلاج.
وتقدم منطقة الخليج العربي نموذجًا ملهمًا في هذا السياق، حيث شهدت تحولًا ملحوظًا في استخدام الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات الصحية، من تطوير منصات رقمية متخصصة في التصوير الطبي، إلى إجراء ملايين الاستشارات الطبية عن بُعد، والكشف المبكر عن الأمراض الوراثية، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لأول مرة في الجراحة والتنظير لرصد الأورام غير المرئية. وفي بلدان أخرى من العالم العربي، أظهر الذكاء الاصطناعي قدرة فائقة على التنبؤ بتغيرات المناخ التي تؤثر بشكل كبير على المنطقة، مثل موجات الحر والجفاف وشح المياه. ?كذلك هنالك نقلة نوعية في بعض الدول بما يخص سلاسل تبريد المطاعيم وغيرها.
ورغم الإمكانيات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لمنطقتنا، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعوق استثماره على النحو الأمثل. فتشير العديد من الدراسات إلى أن هناك مجموعة من التحديات التي تعوق تبني الذكاء الاصطناعي في المجال الصحي، ومن أبرزها ضعف جودة البيانات وقلة البيانات المتاحة، بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية الصحية، علاوة على الحاجة لتدريب عاملي الرعاية الصحية وزيادة الوعي بين مقدمي الخدمات والمرضى بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعزيز قبولهم لها. هذا بالإضافة إلى المخاوف من أن يتم التركيز على استخدام الذك?ء الاصطناعي في النهج العلاجي المتقدم والمكلف بدلاً من توجيه الاستثمارات نحو الرعاية الصحية الأولية والصحة العامة، وهو ما قد يحقق عوائد صحية واقتصادية واجتماعية أكبر على المدى الطويل.
وعند النظر إلى النطاق الأوسع للصحة الرقمية في المنطقة، نلاحظ أن تطبيق التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي يواجه تحديات أكبر. فحتى التكنولوجيات الأساسية، مثل إنشاء أنظمة معلومات صحية إلكترونية مثل أنظمة الرصد، لا تزال بعيدة عن متناول العديد من دول المنطقة، خاصة تلك ذات الدخل المنخفض والمتأثرة بالصراعات.
ومن جانب آخر، يُظهر استطلاع منظمة الصحة العالمية لعام 2021-2022 تأخر بعض الدول في مجال الصحة الرقمية، حيث أظهر الاستطلاع أن غالبية دول منطقة شرق المتوسط لديها بعض السياسات أو الاستراتيجيات في ما يتعلق بالصحة الرقمية، وأن سبع دول فقط تمتلك استراتيجية وطنية للصحة الرقمية.
لتجاوز هذه التحديات وتحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي، من الضروري أن نقيم أولويات الدول فيما يتعلق بالصحة الرقمية عموما. فعلينا دراسة واقع النظم والمعايير والبُنى التحتية والسياسات القائمة، وتحديد الفجوات والأولويات والموارد اللازمة لتطوير أنظمة صحية رقمية مستدامة تتوافق مع الاحتياجات الخاصة لكل دولة. ومن الأهمية بمكان أن نركز على دعم تطبيق التكنولوجيا في مجال الصحة المجتمعية، بما يعزز الوقاية ويُحسن الوعي، بدلاً من التركيز فقط على الجانب العلاجي والطبي. فنحن بحاجة إلى نشر الوعي وحشد التأييد المستند ?لى الأدلة لاعتماد الذكاء الاصطناعي في الطب الوقائي، بدلًا من حصره في العلاج، إذ يوفر هذا النهج حلًا مستدامًا لمواجهة التحديات الصحية.
كما يجب تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الصحة الرقمية، بحيث يتم تبادل الخبرات والقدرات بين الدول للاستفادة من المرافق الصحية الرقمية المتقدمة، مثل المستشفيات الافتراضية والمراكز المتخصصة، لدعم الدول ذات الموارد المحدودة. وينبغي أن تشمل هذه الجهود اتفاقات مستدامة بين الهيئات الصحية وآليات تعاون تهدف إلى سد الفجوات في مجالات الرعاية غير المتوفرة في البيئات محدودة الموارد.
يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة غير مسبوقة لتحسين الواقع الصحي في المنطقة. ولكن هذه الفرصة لن تتحقق إلا من خلال رؤية واضحة، واستثمارات مدروسة، وتعاون مستدام بين دول المنطقة. فالطريق نحو تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصحة يتطلب منا توجيه الموارد نحو بناء نظام صحي يواكب المتغيرات التقنية بما يخدم العلوم الصحية كافة ويحقق العدالة الصحية للجميع.
