يتبنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسة قائمة على تعزيز الاقتصاد الوطني، حتى لو كان ذلك على حساب الالتزامات الدولية. وكان انسحابه من اتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ خلال فترة رئاسته الأولى في عام 2017 تأكيدًا لهذا النهج.
تهدف الاتفاقية، التي تم تصديقها من قبل 195 دولة، إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية عبر تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة، لكنها وُوجهت بانتقادات حادة من ترامب وإدارته آنذاك باعتبارها عبئًا اقتصاديًا على الولايات المتحدة، إذ رأى أن الالتزامات البيئية المفروضة تعرقل النمو الصناعي وتحد من فرص العمل، خاصة في قطاعي النفط والفحم.
عاد الرئيس ترامب ليعيد تأكيد قراره السابق مجددا بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس ضمن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ. وبذلك تنضم الولايات المتحدة إلى إيران واليمن وليبيا كالدول الوحيدة غير المشاركة في الاتفاقية. وبالإضافة الى الأسباب السابقة، ترى إدارة ترامب الحالية أيضا أن الالتزام بالاتفاقية يضع قيودًا غير عادلة على الاقتصاد الأميركي في وقت تتزايد فيه المنافسة مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا، وهما دولتان لم تظهرا التزامًا جديًا بالاتفاقية. وقد جاء انسحاب الولايات المتحدة في سياق استراتيجيات ترامب لتعزيز الصادرات المتعلقة بالطاقة الأميركية وسد العجز الأوروبي الناجم عن الأزمات مع روسيا، معتبرًا ذلك فرصة اقتصادية لا يجب أن تُترك للصين وروسيا وحدهما.
تمثل اتفاقية باريس للمناخ إطارًا دوليًا شاملاً يهدف إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية من خلال تقليل الانبعاثات الغازية وتعزيز التحول إلى الطاقة النظيفة. كما أنها تسعى لتحقيق توازن بين الدول المتقدمة والنامية من خلال الالتزام بتوفير الدعم المالي والتقني للدول الأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي. وبتقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، يعيش ما بين 3.3 مليار و3.6 مليار شخص في دول معرضة بشدة لتأثيرات تغير المناخ، مما يزيد من الضغط على دعم الدول النامية في مكافحة التحديات المناخية.
تعتبر الولايات المتحدة ثاني أكبر مصدر للانبعاثات الكربونية في العالم بعد الصين، حيث تساهم بحوالي 15% من إجمالي الانبعاثات العالمية وفقًا لتقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية (IEA) عام 2022. وبالتالي، فإن لانسحابها من الاتفاقية آثاراً ومخاوف كبيرة بشأن الالتزام العالمي بمكافحة تغير المناخ. فعلى الرغم من أن الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، أكدت التزامها بالاتفاقية، إلا أن غياب الولايات المتحدة أضعف جهود التمويل والدعم الفني المقدم للدول النامية.
رغم استمرار الدعم الدولي للاتفاقية، إلا أن التحديات تبقى قائمة. فعلى سبيل المثال، لم تلتزم روسيا وتركيا التزامًا جديًا بالاتفاقية، واقتصرت مشاركتهما على الإطار الرمزي دون تنفيذ فعلي للإجراءات المطلوبة. أما الصين، المسؤولة عن حوالي 30% من الانبعاثات العالمية، فقد استثمرت في مشاريع الطاقة المتجددة لكنها لم تتخلَّ عن الفحم كأحد مصادر الطاقة الأساسية، مما جعل التزامها بالاتفاقية موضع تساؤل.
تشير تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن العالم يحتاج إلى تقليص الانبعاثات بنسبة تقارب 45% بحلول عام 2030 للحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة العالمية أقل من 1.5 درجة مئوية.
من ناحية أخرى، تواجه الدول النامية تحديات كبيرة في تنفيذ السياسات البيئية المطلوبة نظرًا للكلفة الاقتصادية المرتفعة. فوفقًا للبنك الدولي، تحتاج الدول النامية إلى ما يقارب 4.5 تريليون دولار بحلول عام 2030 لتمويل التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. ومع ذلك، فإن الدول الغنية التي تتحمل مسؤولية تاريخية عن التلوث البيئي لم تفِ بالتزاماتها المالية بالكامل، حيث لم يُحقق هدف تمويل المناخ السنوي البالغ 100 مليار دولار، والذي تم التعهد بتغطيته خلال مؤتمر المناخ في كوبنهاغن عام 2009.
أدى انسحاب الولايات المتحدة إلى فراغ في القيادة العالمية لقضية المناخ. فبينما استمرت بعض الدول، مثل ألمانيا وفنلندا، في تبني سياسات بيئية طموحة، برزت دول أخرى مثل البرازيل كمشارك فعال في المؤتمرات البيئية. لكن في المقابل، عملت قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، على الاستفادة من هذا الفراغ لتعزيز نفوذها في أسواق الطاقة التقليدية.
رغم أهمية اتفاقية باريس للمناخ كإطار دولي لمواجهة الأزمة المناخية، إلا أن فعاليتها تظل موضع شك. فالاتفاقية غير ملزمة قانونيًا، مما يسمح للدول بالتراجع أو التباطؤ في تنفيذ التزاماتها. كما أن الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة لا تزال عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق أهدافها. لهذا، يحتاج المجتمع الدولي إلى آليات أكثر صرامة، وتمويل عادل للدول النامية، فضلًا عن التزام حقيقي وإرادة سياسية قوية من جميع الدول الكبرى تضمن مستقبلًا أكثر استدامة للأجيال القادمة.
تمثل اتفاقية باريس خطوة ضرورية لكنها غير كافية لمواجهة أزمة المناخ، إذ تحتاج إلى التزام دولي واضح واستراتيجيات متوازنة بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة. العالم اليوم أمام تحدٍّ حقيقي لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة. وفي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، لم يعد هناك متسع من الوقت للتأجيل.