تناولتُ في مقالٍ سابقٍ تداعيات انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من منظمة الصحة العالمية، لتسليط الضوء على التأثير العميق لهذا القرار على قدرة المنظمة في تنفيذ برامجها الحيوية. وفي هذا المقال، نتناول التداعيات المترتبة على التوقف الإضافي للدعم التنموي والإغاثي الأميركي، وما يشكّله من تهديدٍ مباشرٍ للدول النامية التي تعتمد على هذه المساعدات في تمويل مشاريعها الصحية والإغاثية. ويكتسب هذا التحدي بُعدًا لا يقل خطورة في ظل انتشار الأوبئة والأمراض السارية، إلى جانب تصاعد أزمات صحية عالمية متكررة، مثل جائحة كورون? والإيبولا، التي أظهرت مدى الحاجة إلى التعاون الدولي لضمان الاستجابة الفعالة وحماية الأمن الصحي العالمي.
تعتمد العديد من الدول النامية بشكل كبير على الدعم الأميركي في تمويل برامجها الصحية. فوفقًا لمكتب الموازنة في الكونغرس، فقد خصصت الولايات المتحدة 278.1 مليار دولار أميركي لدعم القطاع الصحي في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل منذ عام 2000. مثّلت هذه المساعدات، والتي لم تتجاوز 0.3% من إجمالي إنفاق الحكومة الأميركية في عام 2023، ما نسبته 29.1% من إجمالي المساعدات الإنمائية المخصّصة للصحة والمقدّمة من جميع الدول المانحة. وتشير الإحصاءات إلى أنه منذ عام 2020، وُجّهت هذه المساعدات لدعم أولويات رئيسة في الصحة العالمية? شملت مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (47.8%)، وتعزيز صحة الأم والصحة الإنجابية (11.5%)، ورعاية الأطفال حديثي الولادة وصحة الطفل (8.4%)، بالإضافة إلى التصدي للملاريا (5.9%) والسل. وتشير الدراسات أيضًا إلى أن الاستثمارات الأميركية قد أسهمت بشكل كبير في تحقيق تقدم ملموس في مكافحة الأمراض والحفاظ على حياة ملايين الأشخاص في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
إن توقف هذه المساعدات في تلك البلدان سيجعل مجتمعاتها أكثر عرضة لتفشي الأمراض، مما يضعف قدرة الحكومات على مواجهة الأزمات الصحية، ومن المؤكد علميًا أن الأمراض التي أصبحت عابرة للحدود والقارات ستؤثر ليس فقط على تلك الدول، بل ستنعكس آثارها على باقي الدول بما فيها الولايات المتحدة، مما يهدد الأمن الصحي العالمي برمته. ولا يمكننا تجاهل أن الدعم الأميركي يشمل أيضًا تعزيز النظم الصحية من خلال الأبحاث وتدريب الكوادر وبناء البنية التحتية. وبغياب هذا الدعم، سيتراجع أداء هذه النظم الصحية، مما ينعكس سلبًا على جودة الخدم?ت الصحية ويعوق التقدم نحو تحقيق التغطية الصحية الشاملة. كما أن المجتمعات المهمشة، بمن في ذلك اللاجئون والنازحون، ستكون الأكثر تأثرًا بهذا التراجع في الخدمات الصحية، مما يزيد من الأعباء الإنسانية في مناطق النزاعات والأزمات.
لم يكن الدعم الأميركي دائما موجهًا من منطلق إنساني فحسب، بل من منظور استراتيجي أيضًا، بهدف حماية مصالح البلاد القومية وأمنها الصحي الوطني. فالتصدي لتفشي الأوبئة في الدول النامية يعد خط الدفاع الأول لمنع انتقالها إلى باقي أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. وكان هناك أيضًا بعد اقتصادي مهم، حيث أشارت تقارير وزارة التجارة الأميركية إلى أن هذا الدعم يسهم في تعزيز الاقتصاد الأميركي من خلال تحفيز الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم وخلق استقرار اقتصادي عالمي.
هذا لن تجنيه أميركا بوقف دعمها، فسيؤدي ذلك إلى توقف عمل المشاريع الصحية التي تعتمد على تمويلها من خلال وكالة الإنماء الأميركية (USAID) وغيرها من المنظمات غير الربحية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الصحي الخاص، مما سيدفع القائمين على هذه البرامج إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين، مما سيزيد من معدلات البطالة ويفاقم الأوضاع الاقتصادية في الدول النامية.
بناءً على ما تم استعراضه من تحديات صحية واجتماعية واقتصادية، فإن مواجهة هذا التحدي تتطلب من الدول النامية التحرك بسرعة لتنويع مصادر التمويل الصحي وتعزيز التعاون مع جهات عظمى أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين ودول وهيئات أخرى، بالإضافة إلى تطوير سياسات اقتصادية مستدامة تقلل من الاعتماد على المساعدات الخارجية، ولكن، من الناحية العملية، لن يكون هذا الأمر سهل التطبيق. فلو كان هذا الحل ممكنًا، لكانت العديد من الدول قد طبقته منذ عقود ونجحت في الاعتماد على نفسها أو تنويع مصادرها، ولكن مع الأسف لم تتمكن سوى قلة من ?لدول من تنفيذ هذه التوصيات بشكل فعّال ومناسب.
وفي هذا الصدد، يمكننا الإشارة إلى بعض قصص النجاح التي يحتذى بها، وخصوصا في ما أنجز ضمن إطار تعاون إقليمي بين دول ذات مصالح تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة أنشأت هيئات صحية متخصصة سرعت من وتيرة تكاتف الدول في تبادل الخبرات والموارد، والتنسيق المستمر والفعال خلال الأزمات الصحية، والتقليل من الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية، فالمراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها واﻟﻤﺮﻛﺰ اﻷوروﺑﻲ للوقاية ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض وﻣﻜﺎﻓﺤﺘها أسهمت في تعزيز البرامج الصحية المختلفة وتسريع الاستعداد العام والاستجابة للأزمات الصحية،?وذلك في إطار عمل مشترك.
تواجه الدول النامية اليوم تحديًا صحيًا وإنسانيًا واقتصاديًا هائلًا، والذي سيلقي بظلاله على الأمن الصحي العالمي برمته. ومن الضروري أن ندرك تمامًا حجم هذا الخطر وأن نكون على وعي بتبعاته الوخيمة، وعلينا أن نتخذ خطوات سريعة لإيجاد حلول بديلة، بدءًا من تعزيز الشراكات الدولية وحشد الجهود للتمسك بالقانون الدولي والاتفاقيات المبرمة، مثل اللوائح الصحية الدولية.يجب علينا أن نولي ملف الصحة في الدول النامية اهتمامًا بالغًا باعتباره قطاعًا حيويًا وسياديا أيضا وليس خدميًا فحسب.
بات التحرك الفوري لدعم هذا الملف ضرورة ملحة لتجنب عواقب وخيمة قد يصعب تداركها في المستقبل.