لا شك أنّ كثيرين -بغض النظر عن حسابات النصر والهزيمة- تنفسوا الصُعداء مع بدء وقف إطلاق النار في قطاع غزة في التاسع عشر من هذا الشهر، ولا شك أيضاً أنّ هؤلاء قد ارتاحوا لمرور اليوم الأول ونجاح أول عملية تبادل للأسرى بين إسرائيل وحماس، ولعلّه ليس خافياً أنَ هذا الشعور يعود إلى ما مرّ به الشعب الفلسطيني في القطاع طوال (471) يوماً من إبادة جماعية على يد إسرائيل شملت التقتيل، والتهجير (داخل القطاع ولعدة مرات)، والتجويع، والترويع، ولكن السؤال الذي يطرحه كثيرون بحق: هل سوف يستمر وقف إطلاق النار وبخاصة مع بدء المرح?ة الثانية والخطيرة من الاتفاق حيث تمثّل هذه المرحلة تبادل أشخاص مُهمّين من الطرفين (ضباط وجنود من الجانب الإسرائيلي، ومحكومون «بالمؤبدات» من الجانب الفلسطيني) وحيث من المُفترض أن تقود إلى وقف الحرب فعلياً.
إنّ المعضلة الحقيقية في الموضوع هي أنّ إسرائيل اضُطرت إلى هذا الاتفاق اضطراراً وبالذات تحت ضغط الرئيس ترامب الذي هدّد بوجوب وقف الحرب قبل تنصيبه حيث ما زال «نتنياهو» يشعر ومعه كثير من الإسرائيليين (وبخاصة اليمين المتطرف) بأنّ إسرائيل لم تحقق أهداف الحرب المُعلنة وهي: القضاء على حماس، واستعاده الأسرى، وضمان ألا يشكل قطاع غزة خطراً مستقبلياً على إسرائيل، وقد كان مُلاحظاً تماماً من رسالة التهنئة التي بعث بها نتنياهو إلى ترامب بمناسبة تنصيبه أنه ما زال يحلم باستئناف الحرب للقضاء على حماس، والحيلولة دون استمرار?ا في حكم القطاع، والواقع أن استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة مع بدء المرحلة الثانية أو حتى بعدها مُتعذر للعديد من الاعتبارات ولعلّ أهمها:
أولاً: تصريح «ترامب» (وقد أثبت أنه زعيم قوي ويستطيع أن يكبح جماح نتنياهو) على أن يكون اتفاق وقف إطلاق النار «بداية لمرحلة من السلام في الشرق الأوسط»، ومن الواضح أن ترامب يريد أن يوقف المساعدة الهائلة (وبالذات العسكرية والاقتصادية) التي تقدمها أميركا لإسرائيل تحقيقاً لشعاره (أميركا أولاً)، كما يريد أن يوقف «الحرج الأخلاقي» الذي تتعرض له الولايات المتحدة بسبب تأييدها لإبادة جماعية حقيقية يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة أمام العالم، ومما لا شك فيه أن ترامب سوف يحاول بدلاً عن ذلك تكريس «الاتفاقيات الإبراهيمية? التي عقدها في عهدته الأولى، وبعبارة أخرى فهو يريد أن يخدم إسرائيل ولكن بطريقته هو وبما يتماشى مع مصلحة الولايات المتحدة وليس بطريقة نتنياهو.
ثانياً: ثبوت عدم إمكانية تحقيق إسرائيل لأهدافها من الحرب بفعل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والمقاومة، وقد دلّ على ذلك بوضوح الظهور المتحدي والمُنظّم لكوادر حماس وهي تسلم الأسرى الإسرائيليين والتفاف حاضنتها الشعبية حولها، الأمر الذي سوف يجعل الإسرائيليين يفكرون بتحقيق أهدافهم «بطريقة أخرى» على حد تعبير وزير الخارجية الإسرائيلي «جدعون ساعر».
ثالثاً: تفضيل الإسرائيليين بشكل عام -وبغض النظر عن أنصار اليمين الإسرائيلي- للمُضي في الصفقة حيث أشارت الاستطلاعات إلى أن (71%) من الإسرائيليين مع تنفيذ الصفقة وذلك فضلاً عن عائلات الرهائن التي تصر على عمل كل ما تستطيع لكي يتم تنفيذ الاتفاق واسترجاع ذويها.
رابعاً: قناعة الجيش الإسرائيلي والجهات الأمنية الإسرائيلية (الموساد، الشاباك، الشين بيت، أمان) بأن الحرب قد استنفدت أغراضها، وأنه لم تعد هناك أهداف عسكرية يمكن تحقيقها. لقد تم تدمير القطاع فعلياً، كما تم تحييد نسبة مُعتبرة من قوة حماس المادية والبشرية، ولكن لم يتم تدمير الأنفاق، كما لم يتم هزيمة حماس كلياً حتى أن وزير الخارجية الأميركي السابق «بلينكن» اعترف بأن حماس استطاعت تعويض ما خسرته من أفراد من خلال تجنيد أشخاص جدد.
خامساً: رغبة المجتمع الدولي الرسمي والشعبي في إنهاء الإبادة الجماعية التي قامت بها إسرائيل في قطاع غزة، وقد عبّر هذا المجتمع رسمياً (من خلال هيئات الأمم المتحدة) وشعبياً (من خلال المظاهرات الحاشدة في عواصم ومدن العالم الكبرى) عن رغبته في إنهاء هذا الوضع المأساوي، ومن الواضح أن إسرائيل لا تستطيع أن تمضي في عدوانها إلى ما لا نهاية وهي تتعرض لمحاكمه أمام «محكمة العدل الدولية» (أعلى هيئة عالمية تابعة للأمم المتحدة) بتهمة الإبادة الجماعية، كما يتعرض مسؤولوها (نتنياهو وجالانت) لاتهامات من قبل «محكمة الجنايات الد?لية» بارتكاب جرائم حرب، بل أن دولاً عديدة حول العالم بدأت بملاحقة ضباطها وجنودها بسبب ارتكاب مثل هذه الجرائم.
سادساً: اشتمال المرحلة الثانية على تبادل أشخاص يهمّون الجانب الإسرائيلي بشكل خاص وهم «الضباط والجنود»، ومعروف أن إسرائيل قد تستطيع غض النظر عن استبدال بعض المدنيين ولكنها لا تستطيع تجاوز استرجاع ضباطها وجنودها، ناهيك عن أنّ المرحلة الثانية لا تعني نهاية الاتفاق واستئناف الحرب اوتوماتيكياً بل سوف يكون مطلوباً من الوسطاء (أميركا، مصر، قطر) أن يستمروا في بذل الجهود (مع تمديد المرحلة الأولى)، حتى الوصول إلى اتفاق بشأن المرحلة الثانية.
إنّ ما سبق لا يعني بالطبع استحالة استئناف الحرب (قال ترامب بعد تنصيبه أنه ليس متأكداً من استمرار وقف إطلاق النار)، فدُنيا السياسة حُبلى دائماً بالمتغيرات، وقد يحدث بعضها ويشعل الفتيل مرةً أخرى، ولكن ما هو منظور أمامنا ونستطيع الاستدلال به لا يشي إلا بأنّ الحرب قد توقفت فعلياً، وأن الفرقاء سوف يمضون قُدماً في تنفيذ الاتفاق، وإنّ غداً لناظره قريب.