منذ نحو مطلع القرن الحادي والعشرين، شهد العالم تحولًا جذريًا في طريقة إنتاج وتوزيع الثروات، حيث أصبحت المعرفة المورد الرئيسي للنمو الاقتصادي. إذ يُطلق على هذا التحول اسم «اقتصاد المعرفة»، الذي يعتمد على المعلومات، والمهارات، والتقنيات الرقمية الحديثة، كأدوات أساسية للإنتاج والابتكار. ويركز اقتصاد المعرفة على استغلال الأفكار والمعلومات بدلاً من الاعتماد فقط على الموارد التقليدية مثل الأرض والعمالة ورأس المال، مما أدى إلى إعادة تعريف ملامح الاقتصاد العالمي. فلنتحدث عن ماهية اقتصاد المعرفة ببعض التفصيل.
يعتمد اقتصاد المعرفة على الابتكار والابداع والقدرة على تحويل المعرفة إلى منتجات وخدمات ذات قيمة اقتصادية. يشمل ذلك عدة قطاعات مثل التكنولوجيا، والاتصالات، والتعليم، والبحث العلمي، والخدمات المالية، وحتى الصناعة التقليدية التي أصبحت تعتمد بشكل متزايد على التقنيات الرقمية المتقدمة والذكاء الاصطناعي وحفظ البيانات وتحليلها وعلى القدرة النوعية للأفراد والمؤسسات لانتاج المعرفة وتحسين إنتاجيتها.
وعلى عكس الاقتصاد التقليدي الذي يعتمد على الإنتاج الكمي، يقوم اقتصاد المعرفة على القدرة النوعية للأفراد والمؤسسات على إنتاج الأفكار والمعرفة وتخزينها وتبادلها. إذ تعتبر البيانات والمعلومات من الموارد الأساسية لهذا الاقتصاد، ويعد الابتكار وتوظيف المهارات وتدريبها باستمرار من أهم عوامل نجاحه. وفي هذا السياق، تلعب المعرفة المتجددة والقدرة على التكيف السريع مع التغيرات في السوق وفي المناخ دورًا حاسمًا في تحقيق التنافسية والنمو الاقتصادي وتطوير التكنولوجيا.
فالتكنولوجيا هي المحرك الأساسي لاقتصاد المعرفة. وبفضل التطورات التكنولوجية الهائلة في مجالات الاتصالات والمعلومات، أصبح من الممكن تبادل المعلومات والمعرفة بسهولة وبسرعة غير مسبوقة. فالإنترنت، وتعاظم سرعتها، واندياح حضورها على صعيد عالمي، وفر منصة عالمية لتدفق المعلومات، مما ساهم في ظهور شركات ومنظمات تعتمد على الاقتصاد الرقمي مثل جوجل، وأمازون، ومايكروسوفت، التي تُعد الآن من بين أكبر الشركات في العالم.
والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، كلها أمثلة على تقنيات أحدثت ثورة في الاقتصاد، إذ مكّنت المؤسسات من تحسين عملياتها وتسريعها وزيادة كفاءتها. أضحى بالإمكان الآن للشركات تحليل كميات هائلة من البيانات لاتخاذ قرارات استراتيجية قائمة على المعرفة، مما أدى إلى تحسين المنتجات والخدمات وتقديم تجارب وخدمات أفضل للعملاء، بل واقتراح مشروعات جديدة لتعميق تراكم رأس المال واندياح سلعها في الأسواق العالمية بلا هوادة أو مراعاة لأحوال الدول النامية وتأثيراتها عليها.
تحتل المهارات والتعليم مكانة مركزية في اقتصاد المعرفة. فالاستثمار في رأس المال البشري، من خلال التعليم والتدريب المستمر، يعد من أهم عناصر تعزيز الابتكار والنمو. إذ تشجع الدول التي تتبنى اقتصاد المعرفة على بناء أنظمة تعليمية متطورة تسهم في تنمية مهارات الأفراد في مجالات العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، والرياضيات (STEM) التي اندمجت مع بعضها البعض بفاعلية لم يشهد التاريخ مثيلا لها. هذه المجالات تعد حيوية لأنشطة البحث والتطوير (R&D) التي تعتبر جوهر اقتصاد المعرفة.
المعرفة ليست فقط في مجالات التكنولوجيا والعلوم، بل تشمل أيضًا المهارات الإبداعية والتفكير النقدي التي تساهم في الابتكار في جميع القطاعات. لذلك، يشهد العالم اليوم اتجاهًا نحو التركيز على التعليم المستمر وتطوير المهارات على مدى الحياة، فلم يعد التعليم ينتهي عند أبواب الجامعات، حيث إن التغيرات السريعة في الاقتصاد تتطلب من الأفراد تحديث معارفهم باستمرار لتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. وهذا يفتح آفاق خلق فرص عمل جديدة استجابة لتوسع عالم اقتصاد المعرفة.
أحد الأركان الأساسية في اقتصاد المعرفة هو الابتكار وريادة الأعمال. ومع التركيز المتزايد على المعرفة كمصدر رئيسي للقيمة الاقتصادية، ازدادت أهمية الابتكار في جميع القطاعات الاقتصادية. الابتكار لا يعني فقط تطوير منتجات جديدة، بل يشمل أيضًا تحسين العمليات، وتطوير أساليب جديدة للتسويق والإدارة. إذ تسهم ريادة الأعمال في دعم الابتكار من خلال تطوير حلول جديدة لتحديات السوق والمجتمع.
ويعتمد النجاح في اقتصاد المعرفة بشكل كبير على قدرة الأفراد والشركات على الابتكار وخلق القيمة من خلال الأفكار الجديدة. ويستدعي نجاح ذلك أن تواكب الحكومات والمجتمعات هذا التطور وأن تدعم الابتكار من خلال سياسات تشجع البحث والتطوير، وتوفير التمويل اللازم، وتعزيز التعاون بين الجامعات والمؤسسات البحثية والشركات على الصعيدين المحلي والعالمي.
وعلى الرغم من الفرص الهائلة التي يقدمها اقتصاد المعرفة، إلا أنه يواجه تحديات عديدة. من أبرز هذه التحديات هي الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية. فبينما تتمتع الدول المتقدمة ببنية تحتية متطورة ومنظمة ومرنة في مجال الاتصالات والتعليم والتكنولوجيا، تعاني العديد من الدول النامية من نقص في هذه الموارد. هذه الفجوة تعني أن بعض الدول قد تجد صعوبة في مواكبة الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، مما قد يؤدي إلى تعميق الفوارق الاقتصادية بين الدول.
التحدي الآخر هو التحول السريع في سوق العمل. فمع ازدياد الأتمتة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي، قد يواجه العمال ذوو المهارات التقليدية صعوبة في العثور على وظائف جديدة. هذا يتطلب من الحكومات والمؤسسات التعليمية التركيز على إعادة تأهيل القوى العاملة وتزويدها بالمهارات اللازمة للعصر الجديد وخلق فرص عمل جديدة عبر تطوير التعليم والتدريب لمواكبة العصر المتحرك والمتغير دوما.
كما أن حماية الملكية الفكرية والبيانات الشخصية تعتبر من التحديات الأساسية في هذا الاقتصاد. مع الاعتماد الكبير على البيانات، أصبحت خصوصية الأفراد وحماية معلوماتهم أمرًا بالغ الأهمية، مما يستدعي وضع تشريعات وإجراءات تنظيمية قوية، مع القدرة على تسهيل المراقبة ورفع كفاءة الاشراف على تنفيذها. إذ يعد اقتصاد المعرفة من العوامل الرئيسية التي يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية المستدامة.
فبفضل الابتكار والتكنولوجيا المتقدمة وقليلة التكلفة، يمكن إيجاد حلول للتحديات البيئية والاجتماعية التي تواجه العالم اليوم. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يسهم البحث العلمي في تطوير مصادر طاقة نظيفة أكثر رفقا بالبيئة وأقل تكلفة وأكثر كفاءة، وتطوير تقنيات ري وتكنولوجيا زراعية أكثر كفاءة، وأنظمة نقل أقل تلوثًا، وبطاريات لتخزين الطاقة المتجددة، وتوفير طاقة مستدامة لتحلية مياه البحار بأساليب أكثر كفاءة وأقل تلويثا.
لذلك، فأن اقتصاد المعرفة يفتح المجال لتحقيق تنمية شاملة، حيث يمكن أن يستفيد الجميع من الابتكارات والمعرفة، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو الوضع الاقتصادي. ومع توفر الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية، أصبح من الممكن للدول النامية أن تلحق بركب التطور بخطى أكثر استقرارا وثباتا من خلال الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، رغم أن ذلك غير ممكن للدول النامية كلها بفعل آليات الاستقطاب الموجودة مع دول الشمال ومؤسساته المالية والسياسية!
وبناء عليه، فقد أصبح اقتصاد المعرفة في القرن الحادي والعشرين هو النموذج الاقتصادي السائد، حيث تعتمد الثروات والنمو الاقتصادي على المعرفة والابتكار بدلاً من الموارد المادية ووسائل الانتاج التقليدية. لقد غير هذا الاقتصاد الطريقة التي نعمل بها ونتعلم بها، وفتح الباب أمام فرص جديدة للنمو والتطور ينبغي الاستثمار فيها. فرغم التحديات التي تواجهها الدول النامية، فإن اقتصاد المعرفة يمكن أن يوفر إمكانيات هائلة لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة، إذا ما تم استغلاله بالشكل الصحيح.