بعد نجاحاتها المتعددة على الجبهة اللبنانية وبالذات من خلال الاغتيالات «تنمّر» نتنياهو وأعلن بغطرسة وتبجّح واضحين أنّ إسرائيل بصدد صياغة منطقة الشرق الأوسط، وقد جاء كلامه هذا متّسقاً مع ما أعلنه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حين خيّر أهل المنطقة بين «عالم النعمة» الذي تقوده إسرائيل ويسوده السلام وينعم بالازدهار، وبين عالم «النقمة» الذي تقوده إيران، وتسوده الحروب، ويعاني من الويلات، بل جاء متّسقاً مع ما أعلنه «شمعون بيريز» رئيس دولة إسرائيل السابق الذي بشّر بما أسماه «الشرق الأوسط الجديد»، وهو مُتّسق في ?لواقع مع أحلام إسرائيل في الهيمنة على المنطقة من النيل إلى الفرات!
وإذا فكّرنا بعقل بارد ووضعنا التفكير «الرغائبي» جانباً وطرحنا السؤال الآتي: هل لدى إسرائيل المقومات الحقيقية لتسيّد المنطقة؟ وجدنا أنّ الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي وذلك بالنظر إلى الاعتبارات الآتية:
أولاً: على صعيد القوة العسكرية:
إنّ إسرائيل دولة قوية عسكرياً بلا شك بحكم تقدمها الصناعي والتكنولوجي وبحُكم الدعم الغربي اللامحدود، ويُعد جيشها وفق التصنيفات العالمية الجيش الثامن عشر على مستوى العالم وهي دولة نووية (وإن لم تُعلن ذلك)، ولكنّها من الجهة الأخرى دولة صغيرة المساحة (21,000 كم)، وليس لها عمق استراتيجي، كما أنّها تعتمد في تسليحها إلى حدٍ كبير على الدول الغربية وبالذات الولايات المتحدة (70% من أسلحة إسرائيل من الولايات المتحدة و 30% تقريباً من ألمانيا)، كما أنّ السلاح الذري المتوافر لديها (200 رأس نووي حسب التقديرات) هو سلاح رد? في الواقع وغير قابل للاستخدام الفعلي، وإذا قارنّا قوة إسرائيل العسكرية بالقوة العسكرية للدول الرئيسية الأخرى في الإقليم مثل مصر، وإيران، وتركيا فإنها لا تبدو متفوقة وبالتأكيد لا تستطيع فرض نفسها كقوة مُهيمنة.
ثانياً: على صعيد القوة الاقتصادية:
إنّ إسرائيل دولة قوية اقتصادياً وناجحة وبالذات على الصعيد التكنولوجي، وأيّ استعراض سريع لناتجها القومي الإجمالي، ولمعدل دخل الفرد فيها، ولتصنيفها الائتماني (قبل الحرب الأخيرة)، ولصادراتها إلى دول العالم يؤشر بوضوح إلى أنها دولة قوية اقتصادياً، ولكن إذا قارنّاها بدول الإقليم مثل السعودية التي يعتبر اقتصادها أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، وتركيا التي تعتبر من دول «العشرين» الأغنى اقتصادياً في العالم، وإيران التي تصدّر ثلاثة ملايين برميل يومياً من النفط ولديها أصول اقتصادية هائلة وجدنا أنها ليست في الموقع الأفض? وبخاصة على المدى البعيد.
ثالثاً: على صعيد العلاقات الدولية:
تحظى إسرائيل كما هو معروف بدعم غربي (وبالذات أميركي) غير محدود وثابت تاريخياً، ولكنّها من الجهة الأخرى تبدو دولة «مارقة» و"شبه منبوذة» وبخاصة بعد حربها الهمجية الأخيرة على قطاع غزة، وهذا يتجلى بوضوح في هيئة الأمم المتحدة حيث صوتت ضدها مُعظم دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقطعت كثير من دول أميركا اللاتينية علاقاتها معها، ورفضت دول الاتحاد الإفريقي السماح لها حتى بوضعية «مُراقب»، وحتى على الصعيد الأوروبي بادرت دول أوروبية كثيرة (إسبانيا، سلوفينيا، النرويج.....) إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في خ?وة تُشير إلى امتعاض أوروبي متنامٍ ضدها، وإذا نظرنا إلى علاقاتها مع دول «الأقطاب» الجديدة (روسيا، الصين، البرازيل، جنوب إفريقيا) فإنّنا نجد أنها ليست في أحسن حال.
رابعاً: على صعيد القوة الأخلاقية:
حين تأسست إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة في عام 1948 طرحت نفسها على أنها دولة صغيرة ضعيفة لا تريد أكثر من أن تؤوي الشعب اليهودي الذي تعرض للاضطهاد في كثير من دول العالم وبالذات على يد النازية في ألمانيا، ولكنها مع الدعم الغربي اللامحدود بدأت تُغالي في اضطهاد الشعب الفلسطيني الذي قامت على أنقاضه، وترفض كلياً حقه في تقرير مصيره ولو في الضفة الغربية وغزة (22% فقط من فلسطين التاريخية)، بل وأكثر من ذلك قامت بالاعتداء على الدول العربية المجاورة (الأردن، لبنان، مصر، سوريا) واحتلت بعض أراضيها، وقد جاءَت أحداث «الس?بع من أكتوبر» لتفضح إسرائيل بشكل لا لُبس فيه حيث رأى العالم بالصوت والصورة كيف تُمَارس الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة (تدمير أكثر من 70% من المساكن، وقتل وجرح أكثر من 100,000 فلسطيني) ناهيك عمّا تقترفه من فظائع في الضفة الغربية (قتل أكثر من 700، واعتقال أكثر من 10,000)، ولا شك أنّ هذا كله ساهم في تردّي صورتها الأخلاقية أمام العالم وجعلها تمثل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة أم الجرائم وهي «الإبادة الجماعية»، كما جعل مدعي عام محكمة الجنايات الدولية يصنف أبرز قادتها (نتنياهو رئيس الوزراء وجال?نت وزير الدفاع) على أنهم مجرمو حرب.
إنّ إسرائيل لا تستطيع أن «تُهيمن» على الشرق الأوسط بهذا المستوى الأخلاقي المُتدني إذْ ما الذي ستقدمه إلى شعوب المنطقة لكي تغريها بقبول سيادتها: الاحتلال؟ التنكر لحقوق الشعوب في تقرير المصير؟ ازدراء حقوق الإنسان؟ المنظومة الثقافية الغريبة على ثقافة أهل المنطقة؟
إنّ سجل إسرائيل الحافل بالجرائم والمقارفات البشعة منذ نشأت وحتى الآن لا يدعو شعوب المنطقة إلى الاطمئنان والشعور بالأمان، بل يدعوها في الواقع إلى النظر إليها ككائن غريب وطارئ وعدواني يجب مقاومته بكُل السُبل، ولذا فليس غريبا أن تكتشف إسرائيل أنها وبعد سبعة عقود من نشأتها تنخرط الآن في حرب تسميها حربا «وجودية» (أيّ ضدّ وجودها كدولة) وعلى سبع جهات!
لقد كانت مرفوضة عندما أُنشئت بالقوة، وما زالت مرفوضة لأنها تمارس العدوان والاحتلال، ولن يتيسر لها الهيمنة على الشرق الأوسط كما يحلم قادتها لأنها لا تملك المقوِّمات في الواقع وكما أسلفنا آنفاً.