إدوارد سعيد ليس مفكراً عادياً، يُقفَز عنه أو يُحصَر في حقبة زمنية. فهو كغيره من الفلاسفة العظام يصلح لكل زمان ومكان.
جوانب الرجل وأبعاد فكره كثيرة؛ وهو يعني الكثير للكثيرين.
أما من وجهة نظرنا، فتكمُن أهميته (إضافة إلى ضرورته لكل مختص أو مهتم بالنظريات الأدبية الحديثة)، في أنه، أولاً، من أعمدة فكر ما بعد الحداثة وأقوى مُنظّريه، وأنه، ثانياً، صوتنا المدويّ المسموع في الساحتين الغربية والعالمية.
ولعلّ «ثانياً» أهم من «أولاً» بالنسبة لنا، رغم ارتباطهما.
فعلى هذا البُعد فعل إدوارد سعيد الكثير؛ إذ انبرى منذ نضوج ملكاته التحليلية ومعارفه، ومن موقعه أستاذاً في جامعة عريقة، بالتصدي لكل من تعرّض للقضايا العربية الإسلامية في الغرب بالسوء؛ انبرى يَنقد ويُفككك، ويُفنّد ويَدحض بإقناع، مُستنداً إلى ذخيرة معرفية هائلة وخطاب سردي تحليلي رفيع.
أمثلة كثيرة يمكن ذكرها، لكننا نكتفي بمثالين.
الأول، ويتعلق بالإسلام، ديناً وحضارة. قال إدوارد سعيد الكثير في هذا السياق؛ لكن أهمّه كان في كتابه «تغطية الإسلام»، والذي بيّن فيه بالتفصيل كيف يقوم الإعلام الغربي بالترويج ضد الإسلام مُستنداً إلى الصور النّمطية والقصص المُختَلَقة والكلام المُحرّف.
وكيف أنّ الغرب بدلاً من القيام بِسَبرِ غوْر الحضارة الإسلامية بمصداقية لتبيان الحقائق للناس، قام، وعن قصد، بـ"تغطية» الحقائق وطمسها.
أما على البعد الثاني، فقد بيّن في كتابه الموسوعي «الاستشراق»، الأساليب والاستراتيجيات الخبيثة التي اتبعها المستشرقون في تشويه الشرق واغتيال صورته، وتصويره على أنه أقل حضارةً وعلماً وثقافةً ومكانةً من الغرب.
ونُذَكّر بأنه أولّ من ألّف كتاباً مفصّلاً رفيعاً عن القضية الفلسطينية، والذي كان له أثر كبير في وضع النقط على الحروف، في وقت كان فيه الجهل بالقضية والتعتيم عليها في أوجهما، بسبب الخطاب الغربيّ المعادي.
أحد الدروس المستفادة من الأمثلة الثلاثة هذه أنّ السّرد الغربي المُناهض لنا مبنيّ على «أباطيل» و"أكاذيب». وحقيقة لم يرسخ هذا المبدأ التحليلي التفكيكي في أذهان الكثيرين، عندنا وعالمياً، إلاّ بعدما أخذت تلك الأباطيل والأكاذيب تظهر على نحو صارخ في الأفعال الإجرامية التي ارتكبت في الحرب على غزة والضفة ومناطق عربية خارجهما، و"تغطية» الإعلام الغربي المُجحف لها، المُروّج للتّرّهات والأكاذيب.
وأهمية إدوارد سعيد هنا، إضافة للأبعاد الكثيرة لفكره، أنه من أوائل من أماط اللثام وعرّى وفنّد الأباطيل والأكاذيب؛ ومن أوائل من وضع التصدي لها في إطار علمي فلسفي يقوم على منهجية بحثية رصينة.
لهذا السبب، ولغيره، لا بد من إبقاء فكر إدوارد سعيد ومنهجه العلمي حيّين؛ وعدم السماح بالقفز عنهما.
ولا بدّ كذلك من إكمال مشروعه والبناء عليه في التعريف بالحضارة العربية الإسلامية وشرقنا الرّاقي. فقد انصب دوره في معظم كتبه على تبيان أساليب التشويه والتضليل، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً، لكنّه ترك لنا مُهمة شرح التفاصيل وإبرازها؛ وهي كثيرة.
هذه مسؤولية المثقفين والأكاديميين والمفكرين عندنا؛ لكن الأجدر والأكثر فاعلية وجود هيئة بحثية أو مجلس يعنى بهذا الأمر، ويكون تركيزه مُنصباً على تبنّي ودعم باحثي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية رفيعي المستوى. وهذا مشروع مُلحّ وأساس، لأنه يمسّ جوهر حضارتنا وصلب بقائنا.
لقد وضع إدوارد سعيد اللبنة الأولى، وعلينا إكمال المشروع!