عندما تأسست الولايات المتحدة ككيان سياسي عام (1776) أصرّ أباؤها المؤسسون (Founding fathers) على أن تتبنى قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنذ ذلك الوقت طرحت الولايات المتحدة نفسها كمبشّرة وحامية للقيم الإنسانية النبيلة كالحرية، والديمقراطية، والحقوق الأساسية لبني البشر.
ولكن.... ومع توالي فصول الحرب الإسرائيلية على غزه، وما انطوت عليه من تهجير وتدمير وتجويع وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني في القطاع المنكوب اتضح بشكل لا لبس فيه أنّ إسرائيل ليست وحدها في ارتكاب المجازر اليومية والتدمير الممنهج لكل مقومات الحياة بل الولايات المتحدة التي تقف وراءَها وتدّعمها بمدّ لا ينقطع من الأسلحة الفتاكة، والمعونات الاقتصادية الضخمة، والغطاء السياسي في جميع المحافل الدولية، ولعلّ هذا «الانكشاف» الأخلاقي المشهود للولايات المتحدة يتجلى فيما يلي:
أولاً: المساعدة الأميركية الهائلة لإسرائيل حتى عندما ترتكب المذابح (قُتّل حتى الان أكثر من 40,000 وجُرح أكثر من 100,000 مدني)، وتدمّر البيوت على رؤوس ساكنيها، (أكثر من 70% من المساكن)، وتهجّر السكان (معظمهم تَهجّر أكثر من ثلاث مرات) وتُجوّع المدنيين (إغلاق شبه كامل للمعابر والحدّ من تدفق المساعدات الإنسانية بشكل استفزازي وواضح).
ثانياً: الموقف من محكمة العدل الدولية (أعلى هيئه أمميه تابعة للأمم المتحدة تبت في النزاعات بين الدول) حيث قبلت هذه المحكمة مبدئياً اتهام إسرائيل بأم الجرائم وهي الإبادة الجماعية، واتخذت عدداً من الإجراءات «الاحترازية»، وأمرت إسرائيل بعدم التقدم إلى رفح حيث خالفت الولايات المتحدة هذه المحكمة وزعمت أن إسرائيل لا تمارس «إبادة جماعية» متجاهلةً أنّ ست دول دعّمت طلب جنوب أفريقيا المُتهِم الرئيسي لإسرائيل بالإبادة الجماعية بينما وقفت إلى جانبها دولة واحدة هي ألمانيا ولأسباب تاريخية معروفة!
ثالثاً: الموقف من محكمة الجنايات الدولية (أعلى محكمة عالمية مختصة بمحاكمة الأفراد) ففي حين اتهم مدعي عام هذه المحكمة (كريم خان) رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بارتكاب جرائم حرب رفضت الولايات المتحدة ذلك، بل قام «الكونغرس» الأميركي باستقبال نتنياهو استقبال الفاتحين وصفق له عدد من المشرعين الأمريكيين وقوفاً، وكأنّ الولايات المتحدة تقول لمحكمة الجنايات الدولية: اعتبروا نتنياهو ما تريدون ولكنه بالنسبة لنا «بطل"!
رابعاً: الموقف من الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) فقد أخذت الولايات المتحدة» بالسردية» الإسرائيلية القائمة على اتهام «الأونروا» بالمشاركة في أحداث السابع من اكتوبر وشاركت عدداً غير قليل من الدول في قطع المعونة عنها (مساهمة الولايات المتحدة هي الأكبر وتزيد عن 300 مليون)، وفي حين أعادت معظم الدول التي قطعت مساعداتها عن الأونروا معوناتها (بما في ذلك بريطانيا الحليف الوثيق للولايات المتحدة) أصرت أمريكا على موقفها مجمّدةً مساعداتها لهذا العام!
خامساً: تجاهل رأي كثير من الأميركيين الذين أبدوا امتعاضهم من الدعم اللامحدود للإدارة الأميركية لإسرائيل (أكثر من 60% من الأميركيين طالبوا بوقف الحرب)، وتجاهل الصوت التقدمي والشبابي في الحزب الديمقراطي وفي الجامعات الأمريكية المرموقة (هارفارد، كولومبيا...) الذي طالب بوقف الحرب وإنصاف الفلسطينيين، بل وممالأة إسرائيل في موقفها من كل من يعارض الحرب واتهامها له «باللاسامية"!
سادساً: تجاهل الهيئات الدولية المختلفة التي طالبت بإحقاق الحق لصالح الفلسطينيين ففي حين طالبت أكثريه كبيرة (146 دولة) في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفي حين أيدت ذلك أكثرية في مجلس الأمن الدولي رفضت الإدارة الأمريكية ذلك وطالبت بأن يتم الاعتراف بالتفاهم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي قد يعني إهدار (30) سنة أخرى في مفاوضات عقيمة مع الجانب الإسرائيلي الذي يرفض أصلاً إمكانية قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية وفقاً لما يُسمى الشرعية الدولية.
سابعاً: تجاهل الرأي العام العالمي ففي حين خرجت المظاهرات في معظم عواصم العالم ومدنه الكبرى مُنَددةً بالحرب الإجرامية على قطاع غزة أصمت الولايات المتحدة أذنيها ولم ترَى في هذا العالم إلّا إسرائيل، بل ولم ترَ في مجازرها اليومية الموصوفة غير محاولة مبرّرة للدفاع عن النفس!
ثامناً: استخدام الولايات المتحدة للمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين في تعاملها مع الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، ففي الحالة الأولى أدانت الولايات المتحدة روسيا وألّبت عليها العالم بسبب احتلال روسيا لبعض الأراضي الأوكرانية بينما تجاهلت أن القضية الفلسطينية لم تبدأ في السابع من أكتوبر بل منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي قبل ما يزيد عن سبعين عاماً، وفي الحالة الأولى حاولت الولايات المتحدة إدانة روسيا في كل المحافل الدولية بينما غطت إسرائيل سياسياً في جميع هذه المحافل بما في ذلك محكمة العدل الدولية، وفي حين رعت الولايات المتحدة المُهجرين الأوكران، واغدقت عليهم كافة أشكال المساعدات بخلت على أهالي قطاع غزة بالشحيح الشحيح من المساعدات الإنسانية التي لا تكفي حتى لإبقائهم على قيد الحياة تحت وابل القنابل الإسرائيلية وأوامر التهجير التي تصدر في كل يوم تقريباً. لقد كان من الواضح أن الولايات المتحدة لا تلتزم بموقف أخلاقي واحد في جميع الحالات بل تُغير هذا الموقف حسب مصالحها لا أكثر ولا أقل.
إنّ من الجلي تماماً لكل ذي عينين أنّ الموقف الأمريكي من الحرب على غزه موقف «لا أخلاقي» يثير الاستغراب والعجب لدى كل متابع وهو يتساءَل بينه وبين نفسه: هل هذه هيّ الولايات المتحدة التي تتشدّق بقيم الحرية وحقوق الإنسان؟ هل هذه هي الولايات المتحدة التي تصدّع رؤوسنا يومياً بالحديث عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هل هذه هي الولايات المتحدة التي تتزعم النظام الدولي، وتعتبر نفسها قيّمة على الشرعية الدولية، وحامية للسلم الدولي؟
هل نبالغ إذنْ إذا قلنا «بانكشاف» الموقف الأخلاقي الأمريكي وبيانه على حقيقته؟!