مع تزايد المخاوف من انفجار المنطقة وانجرارها إلى حرب إقليميه شاملة بسبب حادثة «مجدل شمس» اتخذت الولايات المتحدة موقفاً مُديناً لحزب الله بسبب إطلاقه «المزعوم» للصاروخ واعترافها بحق إسرائيل في الدفاع (عن مواطنيها!) وضغطت في نفس الوقت على جميع الأطراف من أجل عدم الانخراط في حرب إقليمية واسعة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تستطيع الولايات المتحدة «ضبط» المنطقة والحيلولة دون نشوب حرب إقليمية واسعة؟ إنها تفعل ذلك بالطبع لأنه ليس من مصلحتها نشوب مثل هذه الحرب وبالذات في هذه السنة الانتخابية حيث لا يريد أيّ رئيس أو مرشح للرئاسة أن يتحمل وزر انخراط بلاده في الحرب بمستوى أو بآخر، وربما رجوع جنود أمريكيين بالتبعية في توابيت الى بلادهم.
ولإلقاء مزيد من الأضواء على هذه الظاهرة أيّ (قدرة الولايات المتحدة على «ضبط» المنطقة) لا بدّ من الإشارة إلى العوامل الآتية: أولاً: كون الولايات المتحدة قوة عظمى بل القوة الأعظم في عالم اليوم حيث تتوفر على 14 اقتصاد العالم، وعلى أقوى جيش مجهز ومدرب وله أكثر من 800 قاعدة موزعة في معظم بقاع الدنيا، ومن الواضح أن لها علاقات قوية وراسخة في منطقة الشرق الأوسط، أمّا إسرائيل (الحليف الأول والأهم لها في العالم)، والدول العربية الرئيسية وتركيا «عضو في حلف الأطلسي» فهي دول حليفة بكل معنى الكلمة للولايات المتحدة حتى وإن اتبعت أحياناً بعض السياسات المتباينة بمستوى أو بآخر مع سياسات الولايات المتحدة.
ثانياً: عدم وجود قوى عالمية منافسة تستطيع أن تدعم الأطراف الأخرى المناهضة للولايات المتحدة، فروسيا قوة عظمى عسكرياً (تملك 6000 رأس نووي استراتيجي) ولكنها تحتل رقم (13) في اقتصاديات العالم، وهي مشغولة الآن بشكل مكثف في حربها مع اوكرانيا، والواقع أنه ليس لها أيّ حليف استراتيجي مهم في منطقة الشرق الأوسط سوى سوريا (تملك فيها قاعدة حميميم الجوية، وقاعدة طرطوس البحرية)، أمّا الصين فهي قوة عُظمى اقتصادياً (الثانية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة)، ومن المؤكد أنها قوة عسكرية كبيرة (وإن كانت ليست في مستوى الولايات المتحدة وروسيا) ولكنها ما زالت تركز على تنمية اقتصادها وتدخل إلى مسرح السياسة الدولية بتدرج وباستغلال واضح لقدراتها الاقتصادية الضخمة.
ثالثاً: عدم رغبه القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (إيران، تركيا، مصر، إسرائيل) في دخول حرب إقليمية كبيرة قد تكون مُدمّرة بالنسبة إليها أو مكلفة بما لا يطاق على الأقل، والواقع أن هنالك أسباباً خاصة بكل واحدة من هذه القوى تحول دون انخراطها في حرب إقليمية واسعة، فإيران مثلاً تعاني من عقوبات اقتصادية كبيرة يفرضها عليها الغرب وهي تكتفي بتقديم نفسها كقوة إقليمية من خلال حلفائها (أو أذرعها) في المنطقة، وتركيا لا تجد لها مصلحة حقيقية في دخول حرب واسعة، وهي مرتبطة استراتيجياً بحلف «الناتو» حيث تملك ثاني أكبر جيش من جيوشه، ومصر تواجه وضعاً اقتصادياً غير مسبوق يكبلها ولا يتيح لها خيارات كثيرة، أمّا إسرائيل فهي القوة الإقليمية الوحيدة التي قد تجد لها مصلحة في دخول هكذا حرب إقليمية واسعة من أجل استئصال أعدائها وتحييدهم كإيران، وحلفائها (اقرأ أذرعها إنْ شئت) ولكنها في الواقع لا تستطيع بدون ضوء أخضر من الولايات المتحدة التي تبقى المورّد الأساسي لها بالأسلحة (70% تقريباً)، والداعم الكبير لها اقتصادياً (3 بليون سنوياً في الأحوال العادية)، والمتبرع لها بالتغطية السياسية في جميع المحافل العالمية بدءاً من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومروراً بمحكمة العدل الدولية، وانتهاءً بمحكمة الجنايات الدولية.
رابعاً: محدودية القوى المحلية وعجزها عن مدّ دائرة الحرب وتوسيعها لكي تصبح حرباً إقليمية شاملة فحماس، وحزب الله، وجماعة أنصار الله، وكل الجماعات المناوئة للولايات المتحدة لا تستطيع ذلك بل هي مضطرة في الواقع لمداراة السياسة الأمريكية وأخذ طروحاتها بعين الاعتبار حيث تدرك أنّ وراء هذه السياسة دولة عظمى غير مسبوقة في نفوذها وثرائها وقدراتها العسكرية.
وإذْن فليس غريباً أن نزعم أن حرباً إقليمية لن تنشب في منطقة الشرق الأوسط ما دامت الولايات المتحدة غير راغبة في ذلك، فهي تستطيع تحييد القوى العالمية الأخرى القادرة على التأثير (مثل روسيا والصين)، وهي قادرة على كبح جماح القوى الإقليمية وابقاء مجال مناوراتها ضمن الحدود التي تريدها، وهي بالتأكيد قادرة -بطريقة أو بأخرى- على تحجيم القوى المحلية التي قد تقاوم مقاومة شرسة ومهمة ولكنها لا تستطيع أن تتعدى النقطة التي تقررها القوة الكونية الكبرى وهي الولايات المتحدة.
ومن هُنا فإنّ السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل تريد الولايات حرباً في الإقليم أم لا؟ والإجابة حتى الآن هي: لا تريد، ولذا فهي تمارس ما اسميناه: «ضبط» المنطقة.