ليس غريباً أن يهتم القارئ والمُحلّل السياسي العربي بالانتخابات الأوروبية، فالعالم العربي بل والإسلامي كان له تاريخ مع أوروبا وكلنا يذكر كيف مزّقت الدول الاستعمارية الأوروبية (وبالذات بريطانيا وفرنسا) المنطقة العربية واقتسمتها بعد الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) من خلال ما عُرف باتفاقية «سايكس بيكو»، وكلنا يعرف أن جذر المأساة الفلسطينية المستمرة فصولاً حتى الآن هي تآمر الدولة الأوروبية المُنتدبة على فلسطين (بريطانيا) مع القوى الأخرى النافذة في العالم لإنشاء دولة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني الأمرّين من هذه الجريمة التاريخية حتى هذه اللحظة.
وإذا كان السبب التاريخي مهماً في استقصاء أبعاد ودلالات الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فإنَ الواقع الأوروبي الحالي يضيف سبباً آخر إذْ إنّ هناك ملايين العرب والمسلمين في أوروبا (الدين الإسلامي هو الثاني في فرنسا بعد المسيحية)، ولا ننسى بالطبع محاولات الهجرة التي لا تنقطع من الدول العربية (وبالذات دول المغرب العربي إلى أوروبا)، وذلك فضلاً عن المصالح المشتركة والمهمة بين الدول العربية والدول الاوروبية، وكون الدول الأوروبية (الاتحاد الأوروبي 27 دولة عدا بريطانيا) تلعب دوراً ذا أهمية على مسرح السياسة الدولية، وإنْ كان تابعاً في معظم الأحيان لتوجهات السياسة الأمريكية.
وإذا جئنا إلى الانتخابات الأوروبية التي أُجريت حتى الآن فإنّنا نلاحظ ما يلي:
أولاً: نزوعٌ متنامٍ بين الجماهير الأوروبية نحو اليمين المتطرف (المعادي للعرب والمسلمين، والرافض للهجرة وحقوق الأقليات)، وقد اتضح هذا في فوز عدد غير قليل من أعضاء هذا اليمين في البرلمان الأوروبي، الأمر الذي دعا الرئيس الفرنسي إلى الدعوة لانتخابات عامة لاستجلاء الصورة بين أبناء المجتمع الفرنسي، كما اتضح هذا التوجه حين حلّ اليمين الفرنسي أولاً في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية حيث تفوق على حزب «الوسط» الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي «ماكرون»، واليسار الذي يقوده حزب «فرنسا الأبية»، والواقع أنه لولا تدارك الأحزاب الفرنسية (الوسط واليسار) للموقف والتوحّد في وجه اليمين لفاز اليمين الفرنسي المتطرف، وقد تنفّس معظم الفرنسيين الصعداء عندما تمّ في الجولة الثانية والأخيرة من الانتخابات استبعاد اليمين المتطرف حيث جاء ثالثاً بعد اليسار والوسط.
ثانياً: ميل الأوروبيين إلى الحكم على «أداء» الأحزاب الحاكمة لا على «منطلقاتها النظرية والفكرية»، فقد انتصر البريطانيون لحزب العمال (أقرب إلى اليسار) بعد أربع عشرة سنة من حكم المحافظين (أقرب إلى اليمين) ومكنّوه من نصر كاسح (فاز بـ 412 من 651 مقعداً) الأمر الذي سوف يتيح له أن يحكمّ منفرداً وبدون الحاجة إلى أية تحالفات قد تعيق تطبيق برامجه الموضوعة.
ثالثاً: أنّ الأحزاب «اليسارية» الحاكمة في الدول الأوروبية المهمة (إسبانيا، ألمانيا، بريطانيا) تميل إلى الاشتراكية بوضوح، وتتخذ مواقف متفهمه لحقوق المهاجرين والأقليات كما يبدي بعضها تعاطفاً واضحاً مع الشعب الفلسطيني مثل إسبانيا (بزعامة الاشتراكي سانشيز) التي اعترفت بالدولة الفلسطينية جنباً إلى جنب مع بعض الدول الأوروبية الأخرى كالنرويج وسلوفينيا، ويُلاحظ في هذا الصدد أن هذا التوجه اليساري وموقفه التاريخي الواضح من القضية ما زال غير ناضج بالنسبة لحزب العمال البريطاني بزعامة «ستارمر»، وكذلك بالنسبة للحزب الاشتراكي الألماني بزعامة » شولتز»، وإنْ كان ذلك يعود (بالنسبة لبريطانيا) لأسباب تاريخية متعلقة بدورها في التمهيد لنشأة إسرائيل، ولموقف الحزب النازي (بالنسبة لألمانيا) من اليهود.
رابعاً: لم يؤثر فوز «يمين الوسط» في إيطاليا بزعامة «ميلوني» على توجهاتها السياسية سواء بالنسبة لحلف الناتو (NATO)، أو بالنسبة «للاتحاد الأوروبي»، وقد يكون السبب هو أنّ «ميلوني» وإن فازّ حزبها بنسبة كبيرة من الأصوات فإنها تحكم من خلال التحالف مع أحزاب أخرى قد يكون لها رؤية مختلفة لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، ومن الجدير بالذكر أنّ هذا ينطبق على ألمانيا أيضاً حيث يحكم الحزب الاشتراكي بزعامة «شولتز» بالتحالف مع أحزاب أخرى أصغر ولكنها ذات تأثير مُعتبر.
خامساً: رغم أنّ الانتخابات الفرنسية انتهت وتمخّضت عن فوز اليسار أولاً، والوسط ثانياً، والتجمع الوطني (اليمين المتطرف) ثالثاً فإن الصورة ما زالت مُلتبسة، حيث على الرئيس الفرنسي أن «يتعايش» مع حكومة يقودها اليسار، أو أن يلجأ إلى حكومة «تكنوقراط» وهما أمران أحلاهما مُرٌّ.
أخيراً فإنّ الدول الأوروبية ذات الثقل هي: بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، وجميعها (باستثناء إيطاليا) محكومة بأحزاب يسارية (مثل إسبانيا)، أو أقرب إلى اليسار (بريطانيا، ألمانيا)، ولم تتبلور الصورة بعد في فرنسا وإن كان من المُرجّح أن يكون لليسار دور فاعل في المرحلة المقبلة بحكم أنه الفائز في الانتخابات الأخيرة، وهذا يعني أنّ الأحزاب الحاكمة في أوروبا ما زالت «غير معادية» إن لم نقل متفهمه ومتعاطفة مع القضايا التي تهم الإنسان العربي والمسلم كقضايا الهجرة، وحقوق «الأقليات» والموقف من القضية الفلسطينية، على أنّ هذا يجب أن لا يُنسينا «النزوع» المتنامي نحو اليمين والذي تجلّى كما أشرنا في فوز عدد كبير من المنتمين إليه في البرلمان الأوروبي، وفوزه كذلك في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأمر الذي يدعو الساسة العرب وصُنّاع القرار إلى ضرورة المتابعة، والتحسب، ووضع الخطط البديلة المناسبة.