في المناسبات المفصلية، كاليوبيل الفضي لتسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية، بالضرورة تعود بنا الذاكرة إلى استعراض هذه المسيرة المباركة المستمرة على مدى ربع قرن، والتي شهدت بلادنا خلالها العديد من الإنجازات التي لم تكن سهلة، على الإطلاق، بل جاءت من رحم التحديات والظروف بالغة الصعوبة والخطورة، بجهود ملكية دؤوبة، كمن ينحت في صخر المحال، في حالة استثنائية وعمل لا يعرف الكلل أو الملل، من أطراف المعادلة الأردنية الواحدة: الشعب، الجيش، العرش، والتي تحولت إلى سيمفونية جميلة، تعزفها اوركسترا أردنية بقيادة المايسترو ا?ملك المتألق، ومعه ولي عهده، الفارس الهاشمي النبيل، القادمين من ذلك التاريخ الذي يمثل عبق الإرث، ونبل النسب النبوي الشريف.
وبهذه المناسبة التي يحتفي بها شعبنا الأردني الواحد، في بواديه، ومدنه، وريفه، ومخيماته، يمكن استعراض أهم التحديات التي مرت بها بلادنا في عهد مملكتنا الرابعة، وقوة المعادلة الأردنية، التي حولت العديد منها إلى فرص للإنجاز والتقدم، ومنها:
أولاً: في البعد العربي والاقليمي والدولي..
لقد تسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية بعد أن فقد الأردن أغلى الرجال، باني المملكة الأردنية الهاشمية الراسخة-الحسين، طيب الله ثراه، وسط ظروف عربية وإقليمية بالغة الخطورة والتعقيد، ممثلة في أحداث «الأقصى» وسيطرة اليمين الصهيوني المتطرف، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومحاصرة القيادة الفلسطينية، وانغلاق أي أفق سياسي لحل القضية الفلسطينية. إضافة الى أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة، واحتلال العراق، وانهيار النظام العربي، مروراً بالأزمة الاقتصادية العالمية، وصولاً إلى، ما سمي، بـ"الربيع العر?ي»، الذي عصف بالمنطقة العربية، الذي لا تزال تداعيات أحداثه قائمة حتى الساعة.
ولم يكن من السهل على قيادتنا التفاعل والتكيف مع هذه التحديات الهائلة التي واجهت بلدنا، الذي يعاني أصلاً من قلة الموارد والإمكانات، حيث استطاعت، وبحكمة منقطعة النظير، تجاوز مجمل هذه الظروف بالغة القسوة والخطورة، ونجت بسفينة الوطن إلى بر الأمان. بل لم ترق قطرة دم واحدة، في الوقت الذي غرقت العديد من دولنا العربية (للأسف) في بحار من الدماء. وهي تجربة-وإن شئتم- نموذج أردني، سيتناوله المؤرخون، كحالة استثنائية، للدراسة والتحليل، والذين سيكتشفون أن السر يكمن في في اللحمة التاريخية، والوحدة الراسخة، التي لا تنفصم ع?اها بين عناصر قوة المثلث الأردني: الشعب، والجيش، والعرش.
ثانياً: في البعد الفلسطيني..
كما لم يعد خافيا المكانة التاريخية للقضية الفلسطينية في الوجدان الأردني، عموما، والهاشمي، بصفة خاصة، منذ عهد الشريف الحسين بن علي، مفجر الثورة العربية الكبرى، وقائد ومرجع احرار العرب.. فإن هذه القضية، ومكانتها كشان أردني داخلي، لم تتغير أو تتزحزح قيد انملة، وبخاصة ما يتعلق بالقدس الشريف ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، على الرغم من كافة الظروف والمنعطفات، وبخاصة ما يتعلق بالأحداث الأخيرة التي اعقبت السابع من اكتوبر الماضي، والتي هزت الكيان الاسرائيلي والعالم، حيث استطاعت قيادتنا، ومن خلال جهودها الاستثنائية ?لدؤوبة من اقتحام الجدران المنيعة التي تمترست خلفها مواقف دول صنع القرار في الغرب، نتيجة لهيمنة السردية الصهيونية حول القضية الفلسطينية، وساهمت بشكل ملحوظ في احداث تغييرات جوهرية في وعي العالم، شعوبا وقيادات. وكان انحياز الأردن، قيادة وشعبا، للشعب الفلسطيني المكافح الصامد، وقضيته العادلة، وحقه التاريخي في الأرض، والحرية، والاستقلال استثنائيا بامتياز، وتمثلت قمة هذا الانحياز في قوافل الامدادات الاغاثية والإنسانية، والطبية، والمشاركة الملكية الشخصية في كسر الحصار وإنزال المساعدات للأهل في غزة، مما يشكل تجسيدا? لحالة فريدة في التاريخ، لملك نبيل يجازف بحياته في سبيل تقديم العون والمساعدة لأطفال ونساء محاصرين يتضورون جوعاً، بفعل عدو يمارس عدواناً بشعاً وإبادة جماعية، وقتل إجرامي نابع من روح انتقامية عمياء، تجاه شعب مظلوم لم تنكسر إرادته، رغم هول المعاناة، ولن يقبل بديلاً لفلسطين إلا الجنة. وهنا تألقت، بكل صفائها ونبلها، إنسانية الهاشميين وعظمة رسالتهم.
ثالثاً: البعد الوطني..
وإيماناً من قائد الوطن بأهمية تمتين البيت الداخلي، وضرورة ذلك في بناء الأردن القوي المتين، فقد تم إطلاق المشروع الوطني للتحديث السياسي والاقتصادي والاداري، وما يرتبط بها اجتماعيا وثقافيا،بهدف الوصول إلى دولة القانون والمؤسسات الراسخة، القادرة على مواكبة العصر الحديث، بمشاركة واسعة من أبنائه وبناته، وبخاصة الشباب منهم،القادرين على مواجهةالتحديات الراهنة والقادمة في مجتمعنا.وانسجاما مع هذا النهج جاءت مخرجات اللجنة الملكية لتشكل خارطة الطريق والرافعة لإنجاز المشروع الوطني للتحديث والإصلاح، كما ارادها جلالة ال?لك.وما تشهده بلادنا الساعة من تحضيرات لإجراء الانتخابات البرلمانية دليل على ما نزعم.
وأخيراً، فقد كان ربع القرن الماضي بقيادة مليكنا ورائد مسيرتنا المظفرة، زاخر بالإنجازات، رغماً عن الصعوبات والمعوقات، التي واجهت بلدنا في مختلف المجالات وعلى كافة الصعد، وسيبقى رهاننا وعقدنا الاجتماعي أزلياً ووثيقاً مع آل البيت، وعميدهم جلالة الملك عبد الله الثاني، وولي عهده الفارس الهاشمي النبيل- سمو الأمير الحسين، لبناء الأردن القوي الأنموذج.
هذا هو طريقنا الذي اخترناه.. ولن نُحيد عنه!