مع قرار إسبانيا، وإيرلندا والنرويج بالاعتراف بالدولة الفلسطينية يصبح عدد الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المعترفة بالدولة الفلسطينية (12) دولة، أيّ نصف عدد أعضاء الاتحاد تقريباً (العدد الكلي للأعضاء 27 دولة)، ولأهمية هذا القرار فقد كان رد الفعل الإسرائيلي متشنجاً حيث اعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو» «مكافأة للإرهاب»، وقام وزير دفاعه «جالانت» بإلغاء قانون «فك الارتباط» مع شمال الضفة الغربية (أيّ السماح بعودة الاستيطان إلى ثلاث مستعمرات في شمال الضفة الغربية كان قد انسحب منها «شارون» في عام 2005)، كما قام وزير ماليته » سموتريتش» بوقف تحويل أموال «المقاصة» للسلطة الوطنية الفلسطينية، وإلغاء امتيازات كبار مسؤولي السلطة، والواقع أن هذا القرار من الدول الأوروبية يكتسب أهمية كبيرة وفي هذا الوقت بالذات حيث تستمر إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وبدرجة أقل في الضفة الغربية، ولعلّنا نشير إلى أهم الأبعاد التي تجعل هذا القرار ذا أهمية خاصة وهي:
أولاً: أن أوروبا كانت ذات مسؤولية خاصة في نشأة القضية الفلسطينية وتطور مأساتها، فالدولة التي أعطت «وعد بلفور» لكي ينشئ الصهاينة دولتهم في فلسطين هي دولة أوروبية (بريطانيا)، والدول التي دعمت إسرائيل تقليدياً وتاريخياً هي الدول الأوروبية (بجانب الولايات المتحدة)، وكلّنا يتذكّر كيف ساعدت فرنسا إسرائيل في تطوير سلاحها النووي (الذي لا تعترف به رسمياً)، وكيف أن ألمانيا دعّمت إسرائيل بالمليارات منذ نشأتها وهي ثاني مُصدِّر لها بالأسلحة بعد الولايات المتحدة، كما أنها أخذت جانبها في محكمة العدل الدولية. إن توالي اعتراف الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية تطبيقاً لحل الدولتين أمر في غاية الأهمية لأنه يشير إلى بداية كسر حلقة الدعم غير المحدود التي دأبت أوروبا على تقديمه لإسرائيل.
ثانياً: أنّ هذا الاعتراف من قبل إسبانيا، والنرويج، وإيرلندا قد يقود بل من شبه المؤكد أن يقود إلى اعترافات أخرى من دول أوروبية في الاتحاد كبلجيكا، وسلوفينيا، ومالطة والتي أعلنت نواياها في هذا الاتجاه، كما عبّر «بوريل» مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عن قناعته بتوالي مثل هذه الاعترافات.
ثالثاً: أنّ دول الاتحاد الأوروبي هي ثاني داعم للأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، كما أن معظم دولها تسهم في تمويل هذه الوكالة الحيوية للشعب الفلسطيني (تُؤمّن له الدعم، وتحفظ حقوق أبنائه اللاجئين في العودة يوماً ما)، وإذا أخذنا هذا بالاعتبار، وإذا أخذنا الدعم المتواصل من الاتحاد الأوروبي للسلطة الوطنية الفلسطينية، وعدم الاعتراف بالاستيطان فإننا يمكن أن نعتبر خطوة الاعتراف هذه مكملة لمسار مهم يدّعم القضية الفلسطينية، وبغض النظر عن مواقف بعض الدول من أعضاء الاتحاد التي تقف بالضد من حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير كبريطانيا وألمانيا.
رابعاً: أنّ هذا الاعتراف من بعض الدول الأوروبية يناقض الموقف الأمريكي الذي يعبّر لفظياً عن تأييده لحل الدولتين، ولكنه يرى أن الدولة الفلسطينية يجب أن تُنشأ من خلال التفاوض مع إسرائيل ولكنه في الواقع يدّعم إسرائيل بغير حدود حتى في حربها الهمجية الحالية في قطاع غزة، كما يقف وحيداً في مجلس الأمن ضد وقف إطلاق النار وشبه وحيد في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث صوتت (143) دولة وبأغلبية كبيرة مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إنّ هذا الاعتراف يعني أن بعض الدول المهمة وبشكل متزايد أخذت تتمرّد على الهيمنة الأمريكية، وتمارس حقها السيادي في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
خامساً: إنّ هذا الاعتراف يشير إلى حقيقة مهمة وهي أنّ شعوب العالم ومنها الشعوب الأوروبية بدأت تفتح عيونها وتدرك طبيعة الصراع الفلسطيني والإسرائيلي حيث تريد دولة «مارقة» مثل إسرائيل تتمتع بدعم هائل وغير مسبوق من الولايات المتحدة والغرب عموماً أن تتنكر لحقوق شعب أصيل يتطلع إلى التحرر، ولعلّ المواقف السياسية لهذه الدول الأوروبية قد تَطوّر بعد أن شاهدت المظاهرات والاعتصامات في عواصمها ومدنها الكبرى، كما شاهدت «الانتفاضة» الطلابية في جامعاتها والتي تعبّر جميعها عن نفور ورفض للجرائم الموصوفة التي ترتكبها إسرائيل كل يوم في قطاع غزة.
سادساً: أنّ هذا الاعتراف يأتي في خِضم معركة رهيبة يخوضها الشعب الفلسطيني ويدفع فيها أثماناً غالية من دماء أبنائه، الأمر الذي يعني أن المواقف الدولية (ومنها الأوروبية بالطبع) لا تتغير ولا تتبدل إلا بالنضال المرير والتضحيات الجسام التي تتحملها الشعوب لكي تظفر بحقها في الحرية والاستقلال.
وباختصار فإنّ اعتراف الدول الأوروبية الآخذ بالتزايد بالدولة الفلسطينية والمطالب بتطبيق «حل الدولتين» فعلاً لا قولاً يدل على أن القضية الفلسطينية تأخذ الأولوية من جديد وتفرض نفسها على «أجندة» العالم، ولا تستطيع إسرائيل ومهما كان جبروتها والدعم غير المسبوق التي تحصل عليه إلّا أن تنصاع أخيراً لمنطق الحق والعدل وإلّا فإنها – وشأن كل القوى الاستعمارية والباغية والمحتلة – سوف تجد نفسها في مواجهة الخسارة المُؤكّدة.