من المعروف أنّ الولايات المتحدة هي أكبر قوة على وجه الأرض حالياً، ويكفي أن نشير إلى أنّ اقتصادها يشكل (ربع) اقتصاد العالم، كما أنّ لها أكثر من (800) قاعدة عسكرية منتشرة في معظم أصقاع المعمورة، وانطلاقاً من هذه الحقيقة فليس من المبالغة أن نشير إلى أن الولايات المتحدة هي الأكثر نفوذاً من بين كل دول العالم، ولعلّ هذا يتبدّى في مجريات الحرب الإسرائيلية على غزة كما يتبدّى في غيرها من أحداث العالم وأزماته.
وإذا أردنا فهماً أعمق للدور الأميركي في الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزة الآن فلا بدّ أن نلاحظ أن الإدارة الأمريكية (Biden administration) تعيش في خضم سنة انتخابية حيث تكافح لإعادة انتخاب الرئيس «بايدن» لولاية أخرى مقابل خصمه المُرجّح الرئيس السابق «دونالد ترامب»، والمتابع لمواقف الإدارة الأميركية إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة يُلاحظ بوضوح أنها بدأت بمساندة كاملة ودعم غير مسبوق لإسرائيل بعد تلقّيها لضربة استراتيجية وازنة في السابع من أكتوبر حيث قدّمت الولايات المتحدة كل أشكال الدعم العسكري، والاقتصادي، والسياسي لإسرائيل، بل وصل الأمر إلى أنْ تشارك فعلياً في رد الهجوم الإيراني بالمسيرات والصواريخ على إسرائيل في سياق هذه الحرب.
غير أنّ الإدارة الأميركية وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر من الحرب التي لم تحقق من خلالها إسرائيل أياً من أهدافها المُعلنة (القضاء على حماس، وتحرير «الأسرى»، وإزالة إمكانية تشكيل قطاع غزة خطراً على إسرائيل مُستقبلاً) بدأت تعيد النظر في بعض سياساتها وإلى الحد الذي انتقدت فيه إسرائيل علناً (كما فعل الرئيس «بايدن» أكثر من مرة، وكما أشار تقرير وزارة الخارجية المُوجّه للكونغرس وإنْ بصورة مُلتبسة)، بل وصل الأمر في الواقع إلى إيقاف بعض شحنات الأسلحة الدقيقة والذكية إلى إسرائيل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ وهل لهذا المواقف صلة بالانتخابات الأمريكية؟
إنّ هناك أسباباً عديدة ومن المؤكد أن بعضها يتصل بكون هذه السنة هي سنة الانتخابات (تجري في 05/11/2024)، ويمكن الإشارة إلى هذه الأسباب على النحو الآتي:
أولاً: تململ الجناح التقدمي والشبابي في الحزب الديمقراطي، وتعبيره عن عدم الرضا عن سياسة «بايدن» القائمة على تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، الأمر الذي يُعرّض فرص فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات للخطر، وذلك فضلاً عن عدم معقولية وأخلاقية هذا الدعم.
ثانياً: انزعاج بل ورفض الناخبين من الأصول العربية والإسلامية لسياسة «بايدن» الداعمة بغير حدود لإسرائيل وهم يشكْلّون -وبخاصة إذا تحالفوا مع الجناح التقدمي والشبابي في الحزب الديمقراطي- رقماً مهماً وبالذات فيما يُسمى «بالولايات المتأرجحة» (Swing states).
ثالثاً: الحراك الطلابي في كثير من الجامعات الأميركية (أكثر من 50 جامعة في أكثر من 30 ولاية)، وقد كان مُلفتاً أن هذا الحراك حدث في ما يُسمى بـ «جامعات النخبة» المشهورة على مستوى العالم (هارفارد، MIT، كولومبيا، برينستون،.....)، الأمر الذي يعني ببساطة أنّ «بايدن» وحزبه الديمقراطي قد يخسر الناخبين الشباب ليس فقط من أعضاء الحزب الديمقراطي، بل من الشباب الأميركي بشكل عام. ولعلّ من المؤكد أن الإدارة الأميركية انزعجت أكثر من هذا الحراك الطلابي بسبب تمدّده خارج الولايات المتحدة حيث وصل إلى بريطانيا وجامعاتها العريقة (أكسفورد، كامبردج)، وفرنسا (السوربون)، وكندا (ماجيل) وغيرها.
رابعاً: نتائج الاستطلاعات الأخيرة في الولايات المتحدة والتي تشير بوضوح إلى رغبة الأمريكيين في وقف الحرب (آخرها أشار إلى أن 70% من الشعب الأمريكي مع وقف إطلاق النار في غزة)، ولعلّ هذا يعني أنّ عدم احترام الرئيس «بايدن» وإدارته لرغبة الجمهور الأمريكي المتعلقة بوقف الحرب على غزة قد يقود إلى احتمالية خسارته لأصوات الناخبين عندما يذهبون إلى صناديق الاقتراع.
خامساً: طبيعة الخصم الذي يواجه «بايدن» في الانتخابات المقبلة وهو على الأرجح «ترامب» فمن المعروف جيداً أن «ترامب» هو الآخر مُناصر قوّي لإسرائيل، بل يعتبر نفسه متفوقاً على جميع أسلافه في دعم إسرائيل حيث أمر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري فضلاً عن أنه حاول تمرير «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، وإراحة إسرائيل نهائياً. إنّ مثل هذا السجّل «لترامب» في نُصرة إسرائيل ودعمها يجعل موقف «بايدن» صعباً إذْ إنّ أيّ تلكؤ في مساندة إسرائيل سوف يعني فرصة «لترامب» واللوبي الصهيوني (بقيادة «آيباك") الذين يقفون بالمرصاد ويتحيّنون الفرص لهزيمة «بايدن» وحزبه الديمقراطي.
وباختصار -ومع أن الناخب الأميركي يهتم أولاً بالاقتصاد والقضايا الداخلية كالهجرة والحدود وغيرها- فإنّ الانتخابات الأمريكية تُلقي بظلالها على الحرب الإسرائيلية على غزة، وتؤثر بلا شك على سياسات «بايدن» إزاءَها مع الأخذ بعين الاعتبار أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل هي علاقة «استراتيجية» راسخة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، وبغض النظر عمن يشغل موقع الرئيس في البيت الأبيض وموقع رئيس الوزراء في إسرائيل، وإن كان هذا لا يعني كما أشرنا آنفاً حدوث بعض الخلافات حول بعض السياسات كما هو حاصل حالياً في هذه السنة الانتخابية بين «بايدن» و"نتنياهو» حول أسلوب التعامل مع «حرب غزة» ومتغيراتها.