نشأ البدوي في رقعة واسعة من الأرض، حيث ألهمته جمالياتها وسحرها بأن جرّت عليه ريشة الفن وأثرت فيه، وبرغم تحديات الحياة الصعبة التي واجهها، إلا أنه استطاع استخلاص السعادة والإلهام من كل تجربة، فأضاف إلى حياته نفحات فنية تعكس مشاعره وتجاربه، مما جعله يعيش نشوة الحس والإحساس بكل لحظة يمر بها.
وكانت الربابة رفيقته الدائمة في هذه الرحلة الفنية والحياتية، حيث كانت ترنيمته الخاصة في كل ظروف حياته.
يقول محمد العقيل الدعجة:
يا عذابي ساعةَ المزيون سيّر
لا اعْتَرض للبُعد عذَّب للفؤادي
يا عباد الله كيف البيت نوّر
والطريق المرَّها أمطرت وِكادي
بعض الأشعار القوية تصلح لجر القوس (الذراب) وترنيمة الربابة، فتحملنا إليه كلماته كما يحمل القوس سهمه، ليجدِّد مقامًا بين أوتار الروح، ويجر لنا لحناً من وتر الحب ينبض بقوة وشاعرية، فحياتهم النابضة بالحيوية والقلق، وطبيعتهم الشغوفة والمتقلبة، ونفوسهم الصافية والمشرقة، جميعها تجتمع لتشكل روحًا خطابية ثائرة، تجتاح كل شيء دون أن تنحني لأي شيء. اندمجت حياة البدو مع جمال الطبيعة المحيطة به، وظروف معيشته، ونحن اليوم نعيش في زمن يحافظ على تقاليد الأجداد، وفي هذا الزمن الهادئ، يمكننا سماع جرس الربابة، ورغم عدم عيشنا زمنهم الجميل، إلا أننا وقعنا في غرام ما سمعنا.
يقول عيسى الخزاعلة بني حسن:
متى سقى الله نعود للظعن والبوش
وبيت الشعر بالبسط زاهي ومفروش
ومن عطا رباً نقتاد ونحوش
والنزل يتماوج بولدً و شياب
بين البدو، يُعتبر الشعر فنّاً مُعزّفاً... وإذا كان الشاعر حين يُلاعب الربابة يُعتبر شاعراً موهوباً، فإنّ الشاعر الحقيقي هو الذي يبتكر أساليب النظم ويستخدم القافية بمهارة في كتابة قصائده، وينبغي أن يتمتع بثلاث صفات أساسية: الإبداع في أنواع الشعر، ووضوح الصوت والتعبير، ومهارة استخدام الرّبابة، ومن يتمتع بهذه الصفات يُعتبر شاعرًا عظيماً، والكمال في الشعر يتجلى في اتساع المخيلة والقدرة على وصف المواقف والحروب ببراعة تجعل الجماد يتحول إلى حيوية في قصائده.
يقول سالم الفلاح الشاهين قصيدة جميلة كان يجرها الشاعر عبدالله اللوزي على الربابة:
يقول "سالم" على راس ما نبا
عن الزاد والميه أنا اليوم صايِم
آون ونــة يــا رفاقى لكنها
واحس على قلبي تلاعب سمايم
أون ونة من وقع في حمادة
عليه مرقوم الجناحين حايم
وإذا كانت الجرة تحمل على الربابة قبل المساء، يُطلق عليها اسم "الفاطر"، وهي العجوز، لأن الكبار يجلسون في البيوت وهم من يستمعون إلى الربابه في الصباح، أما إذا كانت تحمل بعد المساء، فيُطلق عليها "فاطر النيب" تشبيه بالشباب بعد اجتماعهم عند الكبار وتشبيه بالذلول الذي شق نابه بعد البلوغ وهو أنّ القول في المساء يذكر الحوادث جميعها.
وعندما يكون الفصل مصنوعًا بالكامل من جلد الذئب، وكان الجلد الرسمي للربابة حينها، كان لديهم اعتقاد بأن جرة القول على جلد الذئب تتحقق، ولذا كانوا يضعون حزامًا من جلد الذئب للفتاة التي لا تنجب، اعتقادًا منهم بأنه يساعدها على الإنجاب.
وتتنوع أنواع الجرات في البلقا، حيث تأتي بأشكال متعددة، فهي كالكواكب، شيء لامع وشيء خافت ومنهن: جرة "الهد" ولم يأت القول عن عبث لأننا في البلقاء نطلق على الخصومة "هده" ويقال "الهدد" فيكون قول الشاعر به قوة وشده وعتب وسريع القول بالإجابة.
وجرة "الشرقي" من أجمل أنواع الشعر، ويُقال إن هذه التسمية جاءت نتيجة لقصة عاشق هجره أحبابه، واتجهوا شرقاً، فراح يودعهم بهذا النوع من الشعر، وقد تميز هذا النوع من الشعر بجمالية رائعة في وصف الطبيعة والمشاعر، ومنها جرة "بني هلال"، وتعبّر عن الحزن والشكوى من تغريبة بني هلال وصعوبات الحياة من شكوى الدهر.
يقول شاعر الخاص ابو مساره لابن عدوان:-
يا ديرتي يا ام الصعانين وحزوم
وفوارعاً تسيل مع كل وادي
هذيك ياجوز والطاب والكوم
وهذيك المقثاه شمعة بلادي
كما أنّ هناك جرة "التوجد" على أرفف الأحداث، إذ كانوا يجدون أنفسهم محاطين بلحظات تملأ حياتهم بالأحداث، فالتوجد الحقيقي يضفي قيمة لكل لحظة ويمنحها لوناً ومعنى لا يُمكن تعويضه.
يقول أحد رجال بني حسن متوجدا على الدعجة بعد رحيلهم:
دعجتك هل الدواحيم وينه
اضحوا بلا شيل وبلا شين
وين البيوت اللي عمدهن طويله
وين الدلال اللي بظل المهاوين
و يوجد "جرة المعيد" وتتضمن ذكر الأحداث التي ترافق الميت، سواءً كان ذلك من خلال ذكر فضائله أو الطريقة التي توفى بها، ويمكن أن يكون ذلك بشكل عتاب لرفقاء القتيل إذا قتل في المعركة او العتب على من اخل في الاتفاق
يقول الشاعر:-
وادع زهابه حنظلا من شجرها
أسمر زواله بازرق النيل غادي
انغز لك رجماً ابعالي ظهرها
من حمة سواد أحجارة عماد
و جرة "السويجلي" ذكرها أحد الشعار في لغز:
البارحةْ سجيت لقيت لي بيت
به منزل يجوز لك يا عشيري
طنابه من الجبين وعظامه من الميت
وافهمه كان عقلك فطيني
والبدوي في دياجير الظلام، يردد "الهجيني" وهو مصدر إلهام للعشاق وموضوع تغنّيهم، فهو جرة فخمة مليئة بأروع الأحاسيس وأعذب الذكريات.
يقول عبدالحافظ العرامين:-
اشرفت انا طايلا ياعقاب
اللي بدا منه زيلاني
طلعت وياطلعتي باتعاب
لقيت بالرجم غزلاني
وبين يدي شاعر الربابة تتجلى الروح بأبهى صورها، وتثير أوتارها الحساسة ما لا يستطيع اللسان وصفه، تتأرجح كلماته كأنها ريشة فنان ماهر تلمس أعماق الفكر وتجوب سواحل الشعور، إنها روح يقظة ترى ما لا يراه العين، تشعر بنبضات الطبيعة وتغوص في أعماقها، تفيض حياة وجمالًا ينبعثان من كل زاوية من زوايا الكون، هذا هو الجمال بكل معانيه وأبعاده.