لم تكن الديمقراطية الغربية مُرضِية تماماً للعارفين، فلقد انطوت منذُ نشوئها على هِنات وسلبيّات بنيويّة أساسية.
منها أنّها مُريحة للأغلبية، مُجحِفة بحق الأقلية. ومنها أنّ جودتها ترتبط بجودة ثقافة مُمارسيها، بما في ذلك درجة نُضج الأحزاب وتمسّكها بالقيم المجتمعية والإنسانية. ومنها أنّ فاعليتها تعتمد على إقبال الناخبين ووعيهم وأخلاقهم.
ومع ذلك فلقد عدّها كثيرون الصيغة الأفضل. ليست مثالية، لكنّها تُجنِّب المجتمعات شرور الخلاف والتناحر، وتُتيح التفاهم والانخراط السلمي في الحياة السياسية، وتُعلي من شأن المصلحة العامة.
ومن هنا جاءت الحماسة لها.
لكنّ الأمر اليوم مختلف، إذ تنطوي الممارسات التي بدأت تسود في العديد من الديمقراطيات الغربية على تطورات سلبية حرفت الديمقراطية عن مسارها، لا بل كادت تُقوضها.
الانحرافات كثيرة.
منها أنّ السّاسة، وهم في الأصل ممثلو الشعب، تغاضوا كليّاً عن العمل للمصلحة العامة، وكرسوا جُلّ جهودهم وأفعالهم لخدمة أنفسهم. لا بل إنّ العديد منهم تنكّروا لأحزابهم، وباتوا على استعداد للتحول إلى أحزاب أخرى إذا كان التّحول يُلبّي مصالحهم. وشهِدنا ذلك يحصل فعلاً.
اللاّمحمود هنا أنّ هؤلاء تخلوا ليس فقط عن قيم ومبادئ أحزابهم، التي يُفترض أنّهم أقوى المدافعين عنها، بل عن القيم الإنسانية.
أضحت الغاية (وصولهم للمركز القيادي وبقاؤهم فيه) تُبرّر أي وسيلة يستخدمونها، حتى ولو نافقوا وكذبوا وارتكبوا الجُنَح والأفعال الجنائية.
والأمثلة على ذلك نقرأ عنها يومياً.
ومنها أنّ التّرشّح للمراكز القيادية على كافة مستوياتها أصبح عملية مُكلفة جداً، ولا يقدر عليها إلا المليء (ونتحدث هنا عن البلايين، لا الملايين) أو المدعوم من قبل المليئين، الذين يؤثرون على المرشح خدمة لمصالحهم وأطماعهم.
والمُزعج هنا أمران: أنّ السياسي في الديمقراطيات الغربية أصبح خادماً لا للشعب بل للقوى المؤثرة واللوبيات ؛ وأنّ ممثل الشعب المميز والمؤهل لن يستطيع دخول الساحة الانتخابية وينافس بجدية إذا لم يكن مقتدراً مالياً أو تتبناه الجهات المقتدرة والتي تُملي عليه ما تشاء.
ومنها أنّ نسبة كبيرة من الناس في المجتمعات الغربية، يقدّرها البعض بأكثر من 50%، تزعزعت ثقتها في العملية الديمقراطية، وبدأت تعزف عن المشاركة.
ومنها أنّ الديمقراطية فقدت بُعدها الإنساني؛ وهذا الأمر الأخطر.
في ظل هذا التردي نُجزم أن الديمقراطية الغربية في مأزق، وأنها ربّما لن تخرج منه؛ اللهم إلا إذا حدثت عملية تصحيح شاملة، تعيد الأمور إلى نصابها.
هل يعنينا الأمر؟
يعنينا، لأننا منذ مدّة ونحن نعمل على إدخال الديمقراطية في حياتنا السياسية، بناءً على النماذج الغربية. وقد قطعنا أشواطاً متقدمة؛ لا بل إننا الآن في خضم عملية تشكيل الأحزاب، والتي هي العمود الفقري للديمقراطية، تمهيداً للانتقال للحكومات البرلمانية.
لكنّ التحدي أن نتبنّى نموذجاً ديمقراطياً نقياً أصيلاً وفاعلاً يناسبنا؛ نريد نموذجاً لا يحذو حذو النماذج الغربية، التي لا تناسبنا أصلاً، لخصوصيتنا الثقافية والاجتماعية، والتي تردّت الآن.
السؤال الذي يجب أن يُسأل: كيف نُكمل عملية الدمقرطة، بحيث نتفادى المأزق الذي وقعت فيه الديمقراطيات الغربية ونُطور النموذج الصحيح الذي نريد؟
هذا هو السؤال المُلحّ الآن!!