كتاب

الصدمة المزدوجة والمقاطعة

تشهد الساحة العالمية منذ أكثر من عشرين شهراً تطورات وتحولات هامة ترتبط بالصراعات الإقليمية والعالمية، وقد انعكست هذه التطورات على شكل ارتفاعات في أسعار النفط والسلع الأساسية لتشكل بذلك «صدمة مزدوجة» أثرت بشكل كبير على الاقتصادات الوطنية والعلاقات الدولية. ونظراً لارتباط ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية بالصراعات الجارية في مختلف أنحاء العالم فإنها تفتح آفاقًا هائلة ومعقدة أمام فهم تداولات الأسواق وتأثيرات الأحداث الجيوسياسية على حياة الأفراد والمجتمعات.

في هذا السياق، بدأنا نلاحظ أن «الصدمة المزدوجة» بدأت تلقي بظلالها على الاقتصاد الأردني، وتشكل تحديات جديدة للدولة والمجتمع وحتى الأفراد، وتجلت تأثيرتها على حياة الناس وسلوكياتهم الاستهلاكية، وهذا ما أكده تقرير طالعتنا به جريدة الرأي منذ بضعة أيام أكد فيه تجار مواد غذائية ان الطلب على المواد الغذائية تراجع منذ بدء الحرب على غزة بنسب تجاوزت ال 60% تقريباً. وقد عزى التقرير تراجع الطلب على المواد الغذائية الى عدة عوامل أهمها تطورات أحداث الحرب على غزة والتي إنعسكت على العامل النفسي للأسر الأردنية إضافة الى تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين. وفي حديث لي مع عدد من الأصدقاء سألوني عن مدى دقة هذه النسبة، فكان ردي هل تراجع طلبهم الشخصي على السلع الغذائية بعد بدء الحرب على غزة، فأجابوا بنعم، مما يعني أن التقرير قد عكس السلوك الفعلي للمستهلك الاردني.

وقد حذر أحدث إصدار للبنك الدولي من نشرة «آفاق أسواق السلع الأولية» بأنه على الرغم من أن الاقتصاد العالمي في وضع أفضل بكثير مما كان عليه في سبعينيات القرن العشرين لمواجهة صدمة كبيرة في أسعار النفط، فإن تصعيد الصراع الأخير في الشرق الأوسط بالإضافة إلى الاضطرابات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يدفع أسواق السلع الأولية العالمية لحالة من عدم اليقين. وإستعرض التقرير متوسط أسعار النفط، حيث يتوقع البنك الدولي أن يصل إلى 90 دولارًا للبرميل في هذا الربع قبل أن يتراجع إلى 81 دولارًا في العام القادم.

ويتوقع أيضًا انخفاض أسعار السلع الأولية بنسبة 4.1% في العام القادم، مع توقعات بانخفاض أسعار السلع الزراعية والمعادن الأساسية. وتشير الآثار الحالية للصراعات إلى أن الأسواق العالمية لم تتأثر بشكل كبير حتى الآن، حيث إرتفعت أسعار النفط بنسبة 6%. وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى ثلاث سيناريوهات محتملة لتصاعد الصراع، مع التأكيد على أن التأثيرات ستعتمد على حجم تعطل إمدادات النفط.

بنفس الوقت، التقرير يحذر من آفاق أسعار السلع الأولية المتراجعة في حالة تصاعد الصراع، مع إشارة إلى ضرورة احتواء تأثيرات هذا الصراع وتقليص دائرته. وفي هذا السياق، يتعين على صانعي السياسات أخذ الحيطة والحذر، خاصةً في ظل المشهد الاقتصادي العالمي الذي شهد صدمات كبيرة في السنوات الأخيرة.

التقرير يشير أيضًا إلى تحسن قدرة الإقتصادات العالمية على إستيعاب صدمات أسعار النفط، نتيجة للتحولات التي قامت بها تلك الإقتصادات. ويشدد على أهمية تنويع مصادر الطاقة والاستثمار في الطاقة المتجددة لتقليل التأثيرات المترتبة على الاقتصاد العالمي.

تقرير جريدة «الرأي» أعلاه أشار إلى أن بعض التجار كانوا قد أكدوا ان الطلب على المواد الغذائية تراجع منذ بدء الحرب على غزة بشكل ملحوظ مبينين أن الاسواق تشهد حالة من الركود خلال الفترة الحالية. وقد عزى التجار أسباب تراجع الطلب الى تراجع القدرة الشرائية وتطورات الحرب على غزة، والذي قد يفسر جزء منه بحالة المقاطعة على بعض السلع المستوردة.

وبخصوص المقاطعة، فإن ذلك مفسر برد فعل الناس على قرارات دول غربية وانحيازها الجلي والواضح لإسرائيل حيث أثر ذلك بشكل كبير على نفسية وسلوك الإستهلاك في دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الأردن.

وقد تم التعبير عن ذلك بالغضب والاحتجاج بإظهار مشاعر الظلم والاستياء، فإتبع المواطنون ردود فعل اقتصادية لمظاهر الانحياز، بدعوات لمقاطعة المنتجات أو الخدمات المرتبطة بالدول المنحازة.

ومن هنا وجدنا تغيير في أولويات الناس في حياتهم اليومية، حيث وجد الأفراد أنفسهم يعيدون تقييم اختياراتهم الاستهلاكية ويميلون نحو دعم المنتجات والخدمات المحلية أو التي تخدم القضايا التي يشعرون بأنها تعبر عن مواقفهم السياسية.

وبالإجمال، يمكن أن يُنظر إلى سلوك المقاطعة بتفهم من قبل بعض الأفراد والمجتمعات، في حين ينظر اليه آخرون بشكل سلبي. فمن الناحية الإيجابية، ينظر البعض إلى المقاطعة باعتبارها وسيلة للتعبير عن المبادئ والقيم الشخصية، وكوسيلة فعالة لدعم قضايا تعتبر عادلة ومهمة. أما النظرة السلبية، فقد ينظر إليها البعض من حيث أن المقاطعة يمكن أن تتسبب في فقدان فرص عمل وفرص تجارية واستثمارات قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد.

العالم بحاجة لسماع أصوات الحكماء والأغلبية الصامتة لإحلال السلام والعدل وكبت أصوات المدافع والحروب وتعزيز ثقافة الحوار والتعاون بين الشعوب، وتحقيق التفاهم والتسامح، لبناء عالم يستند إلى قيم العدل والسلام والتعاون بدلاً من التصعيد والصراع.