لا يستطيع أيّ متابع منصف لموضوع القضية الفلسطينية إلّا أن يعترف أنّ الاهتمام بهذه القضية قد تراجع كثيراً في الآونة الأخيرة، ولكن معركة «السابع من أكتوبر» أعادت الألق إلى هذه القضية، وأوضحت للعالم أنها هي جوهر الصراع في المنطقة وأنه ما لم تُحلّ هذه القضية حلاً عادلاً يتضمن الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته الوطنية على ترابه الوطني وكما نصت عليه الشرعية الدولية (دولة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية) فإنّ المنطقة لن تشهد أمناَ وللجميع.
ومع تطورات حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، وارتكابها لمجازر موصوفة تثير الاشمئزاز وفي مخالفة واضحة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بدأ العالم يستفيق رسميا ًوشعبياً ويدرك أن قضية الشعب الفلسطيني قضية مُحقّة وأنها يجب أن تُعالج لا أن تُوضع جانباً فعلى الصعيد الرسمي عقد مجلس الأمن أكثر من اجتماع (وإن لم يستطع اتخاذ قرار بسبب الفيتو الأميركي) لمناقشة القضية، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بأغلبية كبيرة (120 دولة) لوقف إطلاق النار ومعالجة القضية لاحقاً، وفي يوم السبت الماضي اجتمعت الدول العربية والإسلامية (57) في قمة استثنائية واتخذت قرارات في ذات الاتجاه، وتجدُر الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك دولاً غربية قطعت العلاقات مع إسرائيل احتجاجاً (بوليفيا)، وبعضها سحب السفراء (كولومبيا، هندوراس، تشيلي) وذلك استنكاراً للممارسات الإسرائيلية الشنيعة التي اشتملت على تطهير عرقي، وتهجير، وتدمير مساكن، وقتل مدنيين أكثرهم أطفال (ما يزيد عن 4000 طفل من بين ما يزيد عن 11000 شهيداً) وحرمان من أبسط ضرورات الحياة كالماء، والكهرباء، والوقود.
ولعلّ أهم مظاهر هذه الاستفاقة هي المظاهرات الشعبية الكبيرة التي لم تشهدها المدن العربية والإسلامية فقط بل المدن الأميركية (مظاهرة واشنطن الكبرى في 04/11/2023)، والمدن الأوروبية (لندن، باريس، برلين....).
ولعلّ ما هو أكثر إثارة من هذه الاحتجاجات الشعبية في العالم الغربي المُنحاز إلى إسرائيل تقليدياً وفعلياً هي المواقف التي اتخذتها بعض الجهات الرسمية في هذه الدول ففي الولايات المتحدة وقع أكثر من (400) موظف مُهم من الخارجية ودائرة المساعدات الخارجية (U.S Aid) وغيرهما عريضة يحتجون فيها على الانحياز التام للرئيس «بايدن» وموقف إدارته «غير المتوازن» إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما أن الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي أظهر عدم رضاه عن موقف الرئيس بايدن المُنحاز بشكل تام لإسرائيل.
وفي بريطانيا اضطر رئيس الوزراء «ريشي سوناك» إلى عزل وزيرة داخليته «برافرمان» التي أرادت تقييد المظاهرة المؤيدة للفلسطينيين في لندن وإلى درجة معاقبة كل من يحمل العلم الفلسطيني!
وفي فرنسا أعلنت بعض الأحزاب كحزب «فرنسا الأبية» وقوفها ضد سياسة الرئيس «ماكرون» المُنحازة بشكل واضح لإسرائيل وإن حاول أن يبدو متوازناً في مقابلته لمحطة الإذاعة البريطانية (BBC)، الأمر الذي تنصّل منه في اتصال لاحق مع الرئيس الإسرائيلي «هرتزوغ» معلناً وقوفه التام إلى جانب إسرائيل.
وحتى على مستوى الاتحاد الأوروبي فإننا نلاحظ أن تصريحات ممثله للشؤون الخارجية «جوزيف بوريل» بمجملها تنطوي على اعتراف بازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الأوروبية، كما تنطوي على إدراك بأن هنالك مآسٍ تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني، وأنّ قضيته المُزمنة يجب أن يُنظر إليها بمزيد من العدالة والإنصاف.
ويجدر بنا في هذا السياق أن نتذكر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو كان قد توصل إلى نتيجة هي أن الاهتمام العربي والأجنبي بالقضية الفلسطينية قد تراجع إلى حدٍ كبير، وأنه إذا نجح في «التطبيع» مع الدول العربية، فإن الفلسطينيين سوف لن يكون لهم سند وسوف يقبلون في النهاية مضطرين بحكم ذاتي محدود في ظل الهيمنة الإسرائيلية.
لقد عاد الاهتمام بالقضية الفلسطينية قوياً على المستوى الرسمي، وعلى مستوى الرأي العام العالمي، وإذا تذكرنا مقولة » كلاوسفيتز» أبو الاستراتيجية الحديثة بأن الحرب هي «استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى» أدركنا أن جميع المؤسسات الفلسطينية المعنية، وجميع الدول العربية يجب أن تستثمر هذه اللحظة التاريخية المغموسة بالدم الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية لمطالبة العالم بإنصاف الفلسطينيين، وتمكينهم من ممارسة حقهم في تقرير المصير، الأمر الذي يُفترض أن يتمخض حُكماً عن قيام الدولة الفلسطينية التي تؤوي الفلسطينيين وتحقق لهم ما يتحقق لكل شعوب العالم من حرية، وأمن، وسلام، وعيش كريم وإنّ غداً لناظره قريب.