ثمة أكثر من مسوّغٍ شخصي قد يغفر لي غيبتي عن الكتابة في الأسابيع الصعبة الماضية، بيد أني وانا المؤمن أشد الايمان بمساهمة الكلمة في صنع النصر رغم انتشار التزوير والتضليل في اوساط واسعة من الرأي العام العالمي، وبعض العربي، لا أرضي التهوين عليّ بالقول إن القلم سلاح عديم الجدوى في جحيم مجزرة كبيرة كالتي تجري في غزة! صحيح ان ارتياحا نفسيا ما قد غمرني إثر مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي أدليت فيها برأي «صحي» مطوّل حول ما يجري في غزة وصرخت ُبأشد مما يتحمل صوتي الواهن، مناشدًا وزراء الصحة حول العالم والمسؤولين في منظمة الصحة العالمية تحديدًا، فهي المجال الذي أعرفه ولي فيه بعض خبرة أعتز بها، أن يتحركوا ويفعلوا ما تقتضيه مواقعهم كأمناء على صحة الناس وسلامة ابدانهم وعقولهم، فما بالكم بحياة الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الاسرائيلي لعقود طالت كثيرًا، ويعاني في قطاع غزة تحديدًا منذ سبعة عشر عاما عذابات الحصار برًا وجوًّا وبحرًا، ويتعرض هذه الأيام لهجوم بربري يرقى لجريمة الإبادة الجماعية، باستعمال الأسلحة الحديثة الفتاكة التي أغدقتها اميركا على إسرائيل كأكبر قاعدة عسكرية لها في العالم وتخضع لتوجيهها بطرق مباشرة او غير مباشرة حتى لو بدت للكثيرين عكس ذلك، وقد استخدمتُ في مناشدتي عبارات قاسية لم اندم على التفوّه بها مثل قولي «كاذب من يدّعي منهم انه لا يستطيع ان يفعل شيئًا!» مع إدراكي لحدود اللياقة والدبلوماسية التي قد يحتج بها أصحاب المواقع والمناصب في تلك المنظمات الدولية خوفًا من حكوماتهم فيما لو اغضبوا دولا كبرى بعينها، ما يشل قدرتهم على التفكير الحر الشجاع، وتكون النتيجة إذعانًا وتسويغًا للباطل! ومع هذا فان في تاريخ المنظمات الدولية صفحاتٍ اضاءها بمواقفهم شجعان كثر أبَوْ أن يطأطئوا رؤوسهم، ففي الأسبوع الماضي استقال رئيس مكتب مفوضية حقوق الإنسان في نيويورك المحامي الأميركي الكبير كريغ مخيمر الذي قضى ثلاثين عامًا في ميادين الدفاع عن حقوق الإنسان المختلفة، احتجاجا على فشل المفوضية في القيام بفعل جدي لوقف المجازر التي تقترفها القوات الاسرائيلية ضد الأبرياء في غزة.
في تلك المقابلة التلفزيونية قلت أيضًا ان اي مسؤول صحي او وزير صحة لأي بلد عربي مثلًا يمتلك الحق في طلب عقد اجتماع طارئ للمكتب الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية ومن ثم جمعيتها العامة لبحث امر مهم بحجم العدوان الاسرائيلي الهمجي على غزة (بحجة «الدفاع» عن النفس!)، رغم ما سببه من قتل آلاف المدنيين واكثرهم من الأطفال والنساء، وأيضًا لبحث الحالة الإنسانية الكارثية التي تردّى فيها اكثر من مليونيْ مدني محاصرين وجرى تهجير مئات الالاف منهم الى حيث لا مأوى، والقصد من الاجتماع المطلوب دفع المدير العام للمنظمة كي يرتقي لمستوى مسؤوليته باستخدام منصته المرموقة في تضامن تاريخي مع المنظمات الدولية الأخرى التي تحظى بالاحترام في كل مكان، لإصدار قرار عاجل بوقف العدوان فورًا وفتح المعابر لدخول المساعدات الطبية والغذائية والوقود. (عاجل: والمقال ماثل للطبع اصدرت ثماني عشرة من وكالات الأمم المتحدة في مقدمتها اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية بيانًا تاريخيًا بهذا السياق).
وبعد.. لا أحد يتوهم بالطبع أن إسرائيل سوف تستجيب بسهولة للطلب الانساني الملحّ، ما دامت مستندةً على اميركا ومتفاهمة معها على المماطلة الى ان تستكملا مخططهما الرهيب ضد الشعب الفلسطيني، حتى لو شمل مقتل الرهائن الإسرائيليين.. بالنيران الصديقة!