منذ ما يزيد عن أكثر من عقد وجلالة الملك عبد الله الثاني في كل لقاءاته وخطاباته ومقالاته كان يركز على أهمية حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً، ذلك أن قناعة جلالته تاريخية وتنبع من خلال ما يركز عليه دائماً بأن لا استقرار ولا سلام ولا تطور اقتصاديا وتنمية مستدامة إلا بعد حل القضية الفلسطينية حلاً جذرياً عادلاً قائماً على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. أي ما يختصر في المصطلحات السياسية بحل الدولتين. وهذا الخطاب على مدار مسيرة جلالة الملك كان يتسم بالدبلوماسية الناعمة في سياق ثوابته القيمية وسلوكه الإنساني ومن اجل إعطاء فرصة لحوار ينتج عنه مشروع سياسي لحل القضية الفلسطينية دون الصدام أو الذهاب إلى تصعيد دبلوماسي أو سياسي أو عسكري.
ولكن منذ بوادر تشكيل الحكومة الصهيونية وفي لقاء جلالته مع محطات التلفزة والقنوات الأجنبية حذر الملك بأن ما تدعو اليه ركائز الحكومة الصهيونية القادمة والتي تم تشكيها لاحقا ستؤدي الى صدام كارثي لا تعير اهتماما لاي مساع اتجاه عملية السلام، وان مشروعها يقوم على أساس تصفوي للقضية الفلسطينية، وخاصة فيما يخص أهدافها بعيدة المدى في السيطرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، واتباع سياسة تنطلق من حسم الصراع وليس ادارته على قاعدة مشروع التهجير القسري الترانسفير لفلسطينيي الضفة والقطاع وذلك من خلال اتخاذ ابشع اشكال الفصل العنصري والتطهير العرقي والضغط على كل مقومات وجود وحياة الانسان الفلسطيني.
وقد حذر جلالة الملك في خطابه الأخير وقبل احداث غزة في الجمعية العامة وبلغة تختلف اختلافا كليا من خلال حدتها وطرحها ضمن معايير بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية الناعمة المتبعة وذلك في استشراف الملك اقتراب المنطقة من تفجير وعنف وهو ما تلمسه جلالة الملك من خلال الضغط الهائل والخروقات المتكررة لمعاهدات السلام والتي تمثلت في سياسة الاقتحامات للاماكن المقدسة والمسجد الأقصى على قاعدة سياسة الاقتلاع والإحلال السكاني والضغط اتجاه الكل الفلسطيني ميدانيا وسياسيا ضاربة بعرض الحائط أي حديث عن افق سياسية لحل القضية الفلسطينية معتبرة ان ادواتها العنيفة ستحل الصراع لصالح الكيان الصهيوني.
أما بعد الأحداث الأخيرة والحصار الخانق لقطاع غزة والقتل الممنهج واليومي للمدنيين خاصة والبنية التحتية للقطاع بهدف تفريغه من سكانه على قاعدة اتباع ابشع اشكال التصفية العرقية وكل ذلك قد اجمله جلالة الملك في خطابه في قمة القاهرة منبها الى ان هذه السياسات ستؤدي الى وضع كارثي حقيقي مذكرا ان الدين الإسلامي والعهدة العمرية وقبل من اكثر من الف عام من صدور معاهدة جنيف كانت العهدة العمرية والتي ارتكزت على ركائز الإسلام في التعامل مع البلاد التي يدخلوها بان لا يقتلوا طفلا او امرأة ولا يقطعوا حتى شجرة ولا يؤذوا راهبا او يدمروا كنيسة.
لذلك فقد وصف جلالة الملك ما يجري في غزة بانه جريمة حرب موصوفة واعتبر الصمت العالمي اتجاه مشروع الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني صمتا مريبا مقارنة بوحشية الاحداث وعدم اهتمام العالم بهذه الخروقات الجسيمة متوقفا بكل وضوح وصراحة بان هناك معايير مزدوجة يتعامل معها المجتمع الدولي منوها دون تصريح الى كيفية تعاملت تلك الدول مع الازمة الأوكرانية.
وهذا ما اعتبره جلالة الملك قائلا ان حياة الفلسطيني في معايير هذه الدول اقل أهمية من حياة الإسرائيليين وان السياسة الانتقائية لمحددات حقوق الانسان ارتكزت على التوقف عند حدود الاختلاف العرقي والديني وهي معايير أصبحت واضحة للقاصي والداني محذرا جلالته بان هذه اللامبالاة الغربية والدولية والتقاعس ستكون كارثية علينا جميعا.
لذلك صرح جلالته من خلال جدولة الأهداف المرجوة لفك الاشتباك على قاعدة الأولويات التالية:
1-الوقف الفوري للحرب على غزة وحماية المدنيين.
2-إيصال المساعدات الإنسانية والوقود والغذاء والدواء الى القطاع بشكل مستدام ويحكم ذلك معايير الإغاثة الدولية وليس شروط الاحتلال.
3-الرفض القاطع للتهجير القسري للفلسطينيين او التسبب بنزوحهم فهذه جريمة حرب وفقا للقانون الدولي وخط احمر بالنسبة لنا جميعا.
وان هذه الأولويات اذا لم تطبق ولم تتم محاسبة إسرائيل على الظلم والاحتلال اعتبره فشلا كليا للأمم المتحدة والقيم الدولية وعلى الكيان الصهيوني ان يدرك انه لا يوجد حل عسكري يجنب الكيان الصهيوني الانخراط الدائم والمستدام في دائرة العنف ولا يمكن ان تكون إسرائيل امنة في اطار ازدواجية المعايير.
غضبة الملك في الخطاب كانت رسالة الى كل القوى الدولية من خلال اعتماده اللغة الإنجليزية، ليضع النقاط على الحروف وان تداعيات ما يجري سيتحمل مسؤوليتها المجتمع الدولي والفشل في معايير قياس تعتمد المساواة المطلقة والتعامل مع أي فرد في هذه الدنيا على انه انسان له الحق في الحياة وثانيا له الحق في المسكن والمشرب والمأكل ولا يحق لاي احد في هذا الكون ان يتحكم في مقدار الواجب الإنساني الذي يقدم للفرد كانسان قائم بحد ذاته.
وان جلالة الملك رغم حدة خطابه كان البعد الإنساني حاضرا منعكسا على ملامح محياه من غضب وعاطفة جياشة وحزن على ما الت اليه الأمور اتجاه أبنائنا في قطاع غزة وهذا ينذر بالقادم الأكثر حسما.
من هنا فأنني ادعو كل مؤسسات الدولة الشعبية والرسمية الى جعل خطاب جلالته خريطة طريق في عملها وادائها على كل المستويات، واعتماد القانون كأساس لأبداء الراي دون الدخول بمهاترات الفتنة أو اعتماد سياسة الاسقاط السياسي المشبوه على الأردن وموقفه الحازم والجازم والمستدام اتجاه القضية الفلسطينية، على مسار تاريخ هذا الوطن والابتعاد كل البعد عن ما يخطط له من فتنة تستهدف حصانة جبهتنا الداخلية.