إنّ المتابع لمجريات الحرب الروسية الأوكرانية يلاحظ أن ثمة متغيرات مستجدّة في هذه الحرب، ومن المتوقع في ضوء هذه المتغيرات أن تعيد الأطراف المنخرطة فيها -بشكل مُباشر أو غير مُباشر- حساباتها، فإمّا أن تُصعّد، وإمّا أن تجنح إلى التفاوض، ولعلّ أهم هذه المتغيرات:
أولاً: فشل الهجوم الأوكراني المُضاد إذْ أصبح واضحاً الآن وبعد أشهر من بدء هذا الهجوم والحملة الإعلامية التي سبقته ورافقته أنه فشل تماماً ليس فقط في تحقيق هدفه الكبير وهو (تحرير الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا) بل حتى في إحداث أيّ خرق ذي أهمية عسكرية في الخطوط الروسية المُحصّنة، (باعتراف أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ الذي أشار إلى أنّ الهجوم الأوكراني يسير بشكل مؤلم)، ولذا فقد لجأ الأوكرانيون إلى شن عمليات بالمسيرات في الأراضي الروسية وهذه العمليات قد تخدش هيبة روسيا كدولة نووية عُظمى، ولكنها بالقطع لا تؤثر على الوضع القائم على الجبهة.
ثانياً: اقتراب فصل الشتاء حيث ستشهد الجبهة نوعاً من الجمود بسبب صعوبة تحرك الدبابات والآليات الثقيلة على الأرض المغمورة بالمياه، وإذا كان هناك من طرف يمكن أن يستفيد من فصل الشتاء أكثر من غيره فهو الطرف الروسي في الواقع بسبب سيطرته الجوية شبه الكاملة على أجواء المعركة، وتنوع آلياته وسهولة إيصالها إلى الجبهة.
ثالثاً: حاجة الجيش الأوكراني إلى أشهُر عديدة لكي يتدرب على طائرات (F16) التي سيزوده «الناتو» بها، والواقع أنه من غير المتوقع أن تحدث هذه الطائرات فرقاً في الميزان العسكري بين الطرفين، حيث إنها من الجيل الرابع، ومن المفروغ منه أنّ روسيا تستطيع أن تواجه مثل هذا التطور بما لديها من ترسانة أسلحة (جوية) بالذات. ببساطة إن تزويد الناتو للجيش الأوكراني بطائرات (F16) قد يحسّن وضعه في أجواء منطقة النزاع قليلاً، ولكنه -وبرأي معظم المحللين العسكريين- لن يكون ذا أهمية حاسمة، ويمكن القول نفسه فيما يتعلق بتزويد الدبابات الأوكرانية (وبالذات «أبرامز» الأمريكية) باليورانيوم المُنضّب والذي لن يتم هو الآخر قبل مضي أشهر عديدة.
رابعاً: فشل أوكرانيا في الانضمام إلى حلف «الناتو»، وحتى إلى الاتحاد الأوروبي، وقد أدرك الجميع الآن أن «التموضع» الجديد الذي تبنته القيادة الأوكرانية للابتعاد عن روسيا والانضمام إلى الغرب (من خلال الناتو والاتحاد الأوروبي) أشعل فتيل الحرب مع روسيا التي لا تقبل بالطبع باقتراب حلف الناتو من حدودها، ولن تقبل باستمرار اضطهاد الأوكرانيين ذوي الأصول الروسية الذين يسكنون أساساً في منطقة الدونباس ويتكلمون باللغة الروسية فضلاً عن أنها لم تقبل سابقاً (منذ عام 2014) باستمرار تبعية شبه جزيرة القرم لأوكرانيا (لم تصبح شبه الجزيرة أوكرانية إلا في عام 1954 عندما الحقها الزعيم السوفياتي خرشوف بأوكرانيا لأسباب تنظيمية، والتي يتواجد فيها أسطول البحر الأسود الروسي باتفاقيات طويلة الأجل حتى عندما كانت تابعة لأوكرانيا).
خامساً: استنفاد العقوبات الغربية على روسيا حيث اتضح تماماً بأن روسيا قد تأثرت بالحرب اقتصادياً ولكنها لم تعانِ من انهيار كما كان يأمل ويخطط الغرب (اعترف الرئيس الأوكراني زيلنسكي بأنّ العقوبات لم تؤثر على المجهود الحربي الروسي)، والواقع أن الحرب كما كانت ذات تأثيرات سلبية على روسيا كانت لها ذات التأثيرات السلبية على أوروبا التي خسرت النفط والغاز الروسيين الرخيصين، وكذلك على الولايات المتحدة التي دفعت المليارات مع أوروبا لدعم أوكرانيا. إنّ الحرب في الواقع كانت استنزافاً للطرفين: الروسي والغربي، الأمر الذي يجعل من الحكمة محاولة إيقافها وليس تسعيرها.
سادساً: بروز نظام دولي جديد متعدد الأقطاب بدلاً من النظام الدولي القائم حالياً حيث تتسيّد الولايات المتحدة العالم وتجلس على قمته، فقد أصبح واضحاً أن الغرب فشل في عزل روسيا بل تعززت مكانتها في مجموعة البريكس (BRICS) الذي كسبت أعضاء جدداً مهمين (السعودية، الإمارات العربية المتحدة، جمهورية مصر العربية، إثيوبيا، إيران، الأرجنتين)، كما تبلور تحالف استراتيجي راسخ بين روسيا كدولة نووية عظمى (توازي الولايات المتحدة في هذا المجال) والصين (ثاني اقتصاد في العالم) في مواجهة الغرب. صحيح أن روسيا خسرت استراتيجياً بانضمام فنلندا إلى حلف الناتو، وبالانضمام الوشيك للسويد إلى هذا الحلف، ولكن واقع العالم الحالي يقول بأن نظام القطب الواحد القائم الآن يتزحزح، وأن نظاماً جديداً متعدد الأقطاب يتولّد وإنْ ببُطء.
إنّ من المأمول أنّ هذه المتغيرات الآنفة الذكر سوف تدعو الساسة العقلاء في كلا المعسكرين (الروسي والغربي) إلى إعادة حساباتهم والتأمل من جديد في مآلات هذه الحرب التي أثرت على العالم أجمع، فإمّا أن يلجأ إلى تصعيد جديد يأملون منه مكاسب جديدة، وهو أمر مستبعد في الواقع، وأما أن يلجأوا إلى المفاوضات التي تحقق المطالب الأساسية لكل طرف، وهو أمر ممكن إذا توفرت القناعة، والشجاعة الأدبية، والواقعية السياسية لدى الطرفين.