كتاب

نظرة ثنائية إلى المجتمع

يتوافر في علم الاجتماع الحديث نظريات حللت الواقع الاجتماعي من زاوية واحدة، في اطار تراثها الذي بنيت عليه او استفادت منه منطقيا ومنهجيا، متأثرة بمنهجية الباحثين الذين ينتمون الى مدارس نظرية مختلفة في علم الاجتماع، غير أن علماء الاجتماع لم يستدركوا اغفال المفاهيم المتناقضة التي طرحها الرواد، بل انشغلوا في ردم الهوة بين النظريات الاجتماعية السائدة، كالنظرية الصراعية التي تؤكد على تناقضات الحياة الاجتماعية وتنازعاتها ولم تتناول الجوانب الايجابية للصراع، فعمدوا نتيجة ذلك الى الثنائيات في الاستقصاء والبحث الاجتم?عي، باعتبارها آلية وقائية ضد التحيز الكائن، تكشف عما هو مهمل من الظواهر المدروسة، وتتعمق في دراسة الظاهرة الاجتماعية، وتفسر الظاهرة من خلال نقيضها، باستخدام الاسلوب المقارن للنقيضين، وبدون الركون الى الاختبارات الافتراضية.

لا تخلو الثنائيات من فائدة في الوصف والتحليل لبعض جوانب الظواهر الاجتماعية، اذ أن هناك ثنائيات قد غطت بعض تطورات الحياة الاجتماعية، وجاءت الى علم الاجتماع من خلال تطورات الحياة الاجتماعية، ولم تات بشكل عشوائي او ارادي بشكل متعمد، بل بسبب الظروف الموضوعية التي يعيشها علم الاجتماع، وهي تستخدم من قبل الباحثين في فترة زمنية، وفي كل مجتمع حسب دقة الباحث وملاحظته للظواهر المزدوجة او للمتغيرات المزدوجة في الظاهرة الواحدة.

تؤكد النظرية البنائية الوظيفية مثلا على التضامن والتوازن بين مكونات البناء الاجتماعي، ولكنها لم تدرس الصراعات الحاصلة بينها، بل اعتبرتها حالة اعتلال تنبغي معالجته او ازالته، بينما تدرس النظرية التفاعلية الرمزية السلوك الاجتماعي اليومي الدائر بين الافراد في الشارع والمدرسة والتنظيمات الاجتماعية الرسمية وما لها من آثار في بناء العلاقات الاجتماعية، دون الاهتمام بالبناء الاجتماعي واثره على تشكيل التفاعل او الصراع بين الافراد، في حين أن النظرية التبادلية مبنيةعلى المنفعة المادية والمعنوية الحاصلة بين الافراد في?حياتهم اليومية، دون ابراز الجوانب النفسية والاقتصادية في عملية تبادل المنافع بين الافراد.

ولما كانت الحياة الاجتماعية غير متطابقة في ظواهرها واحداثها، فان الثنائيات الاجتماعية سوف تكون تحصيل حاصل، اذ تمثل طبيعة الظاهرة الاجتماعية، فالمجتمع التقليدي يقابله المجتمع الحضري، والمجتمع المحلي جزء من المجتمع الوطني، وهناك المجتمع الديني والمجتمع الدنيوي، والمجتمع الحضري والمجتمع الريفي، وثمة المثالية والمادية.

أما القيم فلها ثنائيات، مثل: قيم العقل وقيم القلب، قيم الأتباع وقيم الإبداع، قيم المضمون وقيم الشكل، القيم الجماعية والقيم الفردية، قيم الانفتاح وقيم الانغلاق، قيم الطاعة وقيم التمرد، وكذلك الاصالة والمعاصرة، الأنا والآخر، والإنوثة والذكورة، ومجتمع الاستبداد ومجتمع الحرية.

يدلل ظهور ثنائيات متناقضة في المجتمع العربي،على أن هناك قاعدة ثقافية عربية تساعده على التحول والتغيير وتثبت عدم انعزاله عن ما يدور من تطورات في العالم، وبالوقت ذاته تجنبنا التسلط الثقافي الخارجي، كما أنها تردم الهوة بين الثقافات، وذلك بتوظيف ما في الحداثة والتقدم والتحضر والتثاقف من قدرات وامكانيات في توسيع القاعدة الثقافية العربية، من أجل دفع المجتمع العربي نحو التحديث أو التمدن بشكل متميز.

dfaisal77@hotmail.com