ليست هذه المرة الأولى التي اكتب فيها وبشغف عن عمان التي نشأتُ فيها منذ كانت قرية وكبرتُ معها فسبقتني اشواطا وما زالت ماضيةً في النمو والتوسع والازدهار حتى اضحت مدينة كبرى.. تَقدّمَ بي العمر، اما هي فتزداد شبابًا وأزداد بها تعلقاً!
المناسبة محاضرة القاها الكاتب الصحفي المعتّق محمد أبو عريضة الاسبوع الماضي في منتدى الرواد الكبار بعنوان «مدينة عمان على مدى ١٥٠ عاماً » وبسط فيها مراحل تطورها منذ ان كانت لا شيء سوى اودية تغمرها السيول خاصةً في الشتاء حتى جاءها الشركس عام ١٨٧٦ وأقطعهتم السلطة العثمانية بعض الأراضي حول الينابيع مثل راس العين وسفوح الجبال، فباشروا العمل بهمة ونشاط للعيش والاقامة ببناء بيوت الطين والتبن والقصيب واستخدام الدواب للحراثة والنقل والزراعة وهي مهارات نقلوها معهم من قفقاسيا لم يكن سكان المنطقة من البدو الرحل يمارسو?ها فكان حي الشابسوغ اول أحياء عمان، ثم بدأ ينضم لهم آخرون من الشوام والنوابلسة.. وعدد قليل من الأرمن! وتجمع فيها وحولها بعض الفلاحين من قرى الجوار وصار فيها طرقات واسواق ومهن بسيطة تناسبها وبلغ سكانها بضعة آلاف قدّرها المؤلف بخمسة فأقامت فيها الدولة العثمانية عام ١٩٠٩ بلديةً رأسها الشركسي إسماعيل قابوق، وها هي اليوم بعد مائة وبضع سنين تحتضن خمسة ملايين أي بزيادةٍ مذهلةٍ مقدارها تقريبًا ألف ضعف!
في رحلة تطور عمان توقف المحاضر عند مفاصل حملت ملامح تغيرات اجتماعية عميقة لدى أهلها بضغط من المؤثرات السياسية والاقتصادية،فالذين عايشوا مثلا نكبة ١٩٤٨ يتذكرون جيدًا ما طرأ على حياتهم إثر نزوح أعداد كبيرة من الفلسطينيين الى عمان أدى الى ازدحام في حيز المكان الفقير وتزاحمٍ على الخدمات الأساسية التي كانت ضعيفة أصلا، فلم يكن لطالب صغير مثلي (١٦سنة) ان يدركها وهو مشغول بامتحان المترك تمهيدًا للتوجه الى مصر لاستكمال المرحلة الثانوية بالتوجيهي غير المتوفر كي يؤهله للدراسة الجامعية غير المتوفرة أيضًا، إلا عندما عا? بعد سنة من الاغتراب أدهشته وهزّت كثيرًا من قناعاته أثناءها ثقافة أخرى وإن كانت عربية، فوجد عمان غير عمان التي عرفها طوال عمره، وسكانها وقد طرأت عليهم أنماط جديدة من العيش والسلوك والعلاقات ناهيكم عن الارتدادات السياسية الهائلة التي احدثتها الهزيمة القومية.
ومضى بنا المحاضر ببراعته الصحفية ينتقل من مفصل لآخر أبرز في كل منها ما جدّ على شرائح مختلفة من المجتمع من تغيرات نوعية فمثلًا أماط اللثام عن صدوع في العلاقات بعد أحداث ايلول الاسود، أما بعد عشرين عاما حين غزا العراقُ الكويت وسُمي الغزو تضليلاً حرب الخليج الثانية وهُجِّر بسببها مئات الالوف من الفلسطينيين كانوا يشاركون في بناء الكويت لعقود مضت عاد معظمهم إلى الاردن، فقد وصف المحاضر كيف حملت هذه الهجرة القسرية مع وطأة العبء السكاني المفاجئ ثقافاتٍ غيّرها الزمان والمكان وكتلاً مالية ثريّة نسبياً طالتها ادران ا?وباء الاستهلاكي وما رافق ذلك من اضطرابات اقتصادية في العالم والاقليم.. إلى آخر المفاصل التي أوفاها المحاضر حقها من البحث والتقصي كصاحب موقف منها ومن عواقبها لا مجرد راوٍ يسرد تفاصيلها، لكني في هذا الحيّز لا أملك ترف مصاحبته الممتعة في اضاءاته عليها.
وبعد.. فتظل عمان لأهلها بيت القصيد، يحبونها رغم عدم الرضى المستحق احيانا، لأنهم يريدونها دوماً الأفضل والأبهى.