لا أحد يمكن أن يشك في أن المظاهرات الأخيرة التي شهدتها إسرائيل غير مسبوقة فقد استمرت حتى الآن لما يزيد عن (12) أسبوعاً، وقد شملت عشرات (إن لم نقل مئات) الألوف من الإسرائيليين، كما ضمت بين ظهرانيها زعماء كبار من المعارضة الإسرائيلية وبدعم أسماء كبيرة من المجتمع الإسرائيلي، وذلك فضلاً عن أنها شهدت دعماً من بعض العسكريين الإسرائيليين وبالذات من سلاح الجو الإسرائيلي.
لقد عبّرت هذه المظاهرات في الواقع عن سؤال خطير واجهته إسرائيل منذ نشأتها في عام 1948 وهو سؤال «الهوية». ما هوية إسرائيل الحقيقية؟ هل هي دولة يهودية قامت على أساس مقولات التوراة بأن هذه الأرض هي «أرض الميعاد» وبالتالي لا حق لأحد فيها سوى لليهود، أم دولة يهودية في الأساس ولكنها ديموقراطية أيضاً وهي تعيش العصر وتدرك علاقاته ومتغيراته وبالتالي لا بدّ أن تحترم (ولو بالحد الأدنى) القانون الدولي والشرعية الدولية ومنظومة حقوق الإنسان كبقية دول العالم المتحضّر، ومن هنا فإن عليها أن تحرص على تكريس النظام الديموقراطي?
إنّ سؤال «الهوية» هذه طُرح على إسرائيل منذ نشأتها ولكن الحركة الصهيونية (المُدارة من قبل الوكالة اليهودية) ارتأت تجاهل هذا السؤال خوفاً من التشرذم والتصدعات، وعلى هذا الأساس لم يُوضع دستور لدولة إسرائيل بل وُضع ما يُسمى «قوانين أساس» وللمحكمة العليا الإسرائيلية أن تكون المرجعية وأن تبّت في مدى دستورية القوانين، وبمعنى آخر فقد وُلدت إسرائيل دولة علمانية فيها سلطة برلمانية (الكنيست)، وسلطة تنفيذية (الحكومة التي يجب أن تحظى بثقة (الكنيست)، وسلطة قضائية يتم اختيارها بعيداً نوعاً ما عن نفوذ السلطتين الآخريين (ا?كنيست والحكومة) وعلى رأسها المحكمة العليا الإسرائيلية التي تعتبر المرجعية الأخيرة، الأمر الذي يعني فصلاً بين السلطات (Checks and balances) كما هو الحال في أية حكومة تدّعي أنها ديموقراطية (بالمعنى الليبرالي الغربي) والحكم فيها للأغلبية ولكن بدون أن تستغل الأغلبية ذلك لتغيير النظام السياسي وتهدر بالتالي حق الأقلية!.
ما الذي حدث في إسرائيل تاريخياً؟ لقد قامت الدولة على أساسيين مهمين: أولهما اليهودية التوراتية التي وفرت الدافع «لرجوع» اليهود إلى «أرضهم» التي أقاموا عليها دولتهم يوماً ما، والصهيونية التي كانت الذراع الفاعل الذي وفّر الدعم الدولي (الانتداب البريطاني ثم الدعم الغربي عموماً) وجنّد الأنصار من كل مكان، ونظّم هجرة الملايين من اليهود إلى فلسطين، وأقام النظام السياسي الإسرائيلي الذي يتماهى إلى حدٍ كبير مع النظم السياسية الغربية من حيث الجوهر وهو: الديموقراطية القائمة على الفصل بين السلطات.
والواقع أن الأمور سارت على هذا النحو لفترة غير قصيرة من حياة إسرائيل كدولة تحت حكم حزب العمل بزعامة بن غوريون مؤسس الدولة أساساً من عام (1948 – 1977) مكرساً هذا التوجه الذي يقدم الرؤية الصهيونية على الرؤية التوراتية، أما في عام 1977 فقد حدثت انعطافة حقيقية في حياة النظام السياسي الإسرائيلي حيث فاز حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن الأمر الذي قدّم (الرؤية التوراتية) على (الرؤية الصهيونية)، وقد تنامى هذا التوجه بقوة في الواقع بعد تولي بنيامين نتنياهو مقاليد السلطة (شغل موقع رئاسة الوزراء أكثر من أي رئيس آخر) وت?الفه مع قوى اليمين الإسرائيلي وهو ما تجلى في تشكيلته للحكومة الإسرائيلية الحالية حيث أدخل إلى حكومته «بن غفير» زعيم «القوة اليهودية» وهي فصيل يميني متطرف، و «سموتريتش» زعيم «الصهيونية الدينية» وهي فصيل يميني آخر لا يقل تطرفاً، وإذا استذكرنا أن نتنياهو مرّر في عام (2018) قانون يهودية الدولة (الذي يعني ببساطة أن فلسطين هي لليهود فقط وليس لكل مواطنيها)، وإذا استدعينا مقولات الأحزاب اليمينية «كالقوة اليهودية» و «الصهيونية الدينية» حول «حق» اليهود فقط في أرض التوراة (أي فلسطين) أدركنا أن إسرائيل التوراتية تغلبت?في هذه الآونة على إسرائيل الصهيونية، ومن هنا ليس صعباً علينا أن نفهم هذا الانشقاق في المجتمع الإسرائيلي بين من يريدون أن يعيشوا في دولة «دينية» قوامها دعاوى التوراة حول أرض الميعاد، وبين من يريدون أن يعيشوا في «دولة علمانية» قوامها القوانين والأنظمة الوضعية التي طورتها التجارب البشرية في الغرب أساساً والتي تتمحور حول الديموقراطية القائمة على الفصل بين السلطات.
بعبارات مختصرة: لقد قامت إسرائيل على دعامتين أساسيتين متكاملتين: اليهودية (التوراتية) التي وفرت «الدافع»، والصهيونية التي وفرت «الدينامية» التي حولت «الحلم» اليهودي إلى واقع تجسد في دولة (إسرائيل)، ولقد كانت الأهمية عند نشوء الدولة هي للدعامة الصهيونية لأسباب وظروف موضوعية لا مجال لذكرها هنا، أما الآن فإن من الواضح أن الأهمية تنتقل للدعامة الثانية وهي: الدينية (التوراتية)، ومن هنا ينشغل المجتمع الإسرائيلي مرة أخرى بسؤال «الهوية»: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف يجب أن ننّظم أمور حياتنا؟ إنه سؤال وجودي بالنسبة للإ?رائيليين وله انعكاسات مهمة على حياتهم وعلى حياة الآخرين في إسرائيل وخارجها ولذا فإن من الأهمية بمكان أن ننتظر ونرى مخرجات هذا الصراع.