عندما تفجرت ثورة الياسمين في تونس في عام 2011 تفاءَل الجميع ببداية مُوفقة للربيع العربي وذلك بحكم أن الشعب التونسي متعلم، وأن منظمات المجتمع المدني قوية (كالاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعود تأسيسه إلى عام 1946)، ولكن ما جرى على أرض الواقع لم يكن للأسف في مستوى الطموح ولم يلبِ آمال الشعب التونسي في الحرية، والعدالة، والكرامة.
إنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أن الثورة التونسية قد حققت إنجازاً جيداً على صعيد الحرية، ولكن الإخفاق كان واضحاً على الصعيد الاجتماعي حيث لم يحقق المسار الديمقراطي وتداول السلطة (أربعة رؤساء: المبزّع، والمرزوقي، والسبسي، وسعيّد وثلاث عشرة حكومة) أية نتائج ملموسة بالنسبة للمواطن التونسي الذي كان يأمل في عدالة اجتماعية أكثر، ومستوى حياة أفضل، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى أن يقوم الرئيس قيس سعيّد بتعليق عمل الحكومة، والبرلمان، والمجلس القضائي، واقتراح خارطة طريق جديدة بدءاً بدستور جديد، واستفتاء عليه، وانتخابا? تشريعية لم تكتمل بعد.
إنّ المحزن في المرحلة الثانية التي بدأها الرئيس سعيّد (في 25 يوليو/ تموز 2021) بعد عشر سنوات تقريباً من عمر الثورة أنها ليست واعدة فضلاً عن أنها «انقلابية» في نظر الكثيرين، فالاستشارات الإلكترونية بشأن الدستور لم تظفر إلّا بحوالي (50%) من المشاركة الشعبية، والاستفتاء على الدستور لم يحظ إلّا بنسبة مشاركة اقتربت من (30%)، وقد كان المؤشر الأخطر في نسبة المشاركة الشعبية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية حيث لم تصل (12%)، ولا يُتوقع أن تكون نتائج المشاركة في الجولة الثانية أفضل من الأولى).
لقد انحاز عدد غير قليل من التونسيين إلى إجراءات الرئيس التصحيحية في البداية، وكذلك بعض الأحزاب والتيارات السياسية، وأيدها كذلك -وأن بصورة غير مباشرة- الاتحاد العام التونسي للشغل، ولكن معظم هؤلاء سحبوا دعمهم الآن بعد أن اتضح لهم العزوف الشعبي عن التأييد، كما اتضح لهم أن من غير المستبعد أن تنتهي إجراءات الرئيس إلى حكم فردي يستأثر فيه شخص بكل السلطات تقريباً وتعود الأمور إلى ما كانت عليه أيام الرئيس زين العابدين بن علي إن لم يكن أسوأ.
أمام الفشل المنتظر للمرحلة الثانية من عمر الثورة التونسية والتي ميزّتها إجراءات الرئيس سعيّد أصبح لا بدّ من التفكير بطريق ثالث يعيد الثورة التونسية إلى مسارها الصحيح ويحقق الشعارات التي رفعتها وهو ما يمكن أن يُسمى بالطريق الثالث، ولقد بدأت الأحزاب المعارضة (جبهة الخلاص الوطني، حزب النهضة وغيرهما) يطالب باستئناف المسار الديمقراطي السابق وفق دستور (2014)، والتخطيط لانتخابات جديدة برلمانية ورئاسية، ولعلّ الأهم في سياق تبني هذا الطريق الثالث هو مطالبة الاتحاد العام التونسي للشغل بتشكيل حكومة إنقاذ وطني تعيد ال?ورة التونسية إلى مسارها الديمقراطي الصحيح.
ولكن..... هل هذا ممكن فعلاً؟ إن الرئيس يُصّر على أنه ماضٍ في خطواته، وأن الذين يعارضونها هم «عملاء» و"خونة» لا يريدونه أن يسترد حقوق الشعب وأمواله المنهوبة، والمعارضة (يدعمها الآن الاتحاد العام التونسي للشغل وإن ليس بنفس الأسلوب واللغة) يريدون إيقاف هذا المسار والبدء بمسار جديد على النحو المبين آنفاً.
إنّ الواضح أن الطريق الثالث الذي يمكن أن يجلب الخلاص لن يخرج إلى حيّز الوجود إلا بتبلور عاملين مهمين جداً ومترابطين أولهما ضروري للثاني وهما: الإرادة الشعبية الكاسحة التي يمكن أن تُعبّر عن نفسها في الشارع وتبدي رغبة لا لبسّ فيها في العدول عن الطريق الثاني، وتوجّه الجيش التونسي والأجهزة الأمنية (التي على الأرجح لن تقوم بانقلاب بحكم حرفيتها والتزامها بالدستور تاريخياً)، ولكنها قد تقول للرئيس عند النقطة الحرجة: كفى. لا نستطيع أن ندافع عن مسارك، وهذا يذكّر بموقف قائد الجيش التونسي الذي قال للرئيس بن علي في أوج?الثورة وحينما رأى الجماهير التونسية الهائلة تتدفق إلى الشوارع: لا نستطيع أن نحميك وهذا يذكر أيضاً بموقف الجيش المصري حين رفع الغطاء عن الرئيس حسني مبارك، والجيش السوداني حين رفع الغطاء عن الرئيس عمر البشير.
لقد وصل الوضع التونسي إلى » لحظة الحقيقة »، ومنطق الأشياء هو أن يتم اجتراح «طريق ثالث» فالطريقان السابقان أثبتا أنهما بلا نهاية سعيدة، ولكن........ أليس الوصول إلى هذا » الطريق الثالث » معضلة حقاً؟ بلى، ولكن الأمر كما قال الشاعر:
مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها